الحياة سخاء لا أخذ وعطاء

” الحياة، أخذٌ وعطاء “، عبارة كثيرا ما ترددت على مسامع الصغير كالكبير. صدى حرف العطف الذي يتوسطها فضح المعنى الذي ترمي إليه؛ معنًى قد يغفل عنه البعض ويستوقف البعضَ الآخر، حرف الواو ذاك الذي جمع بين الأخذ والعطاء هو بيت القصيد، أمَّا حصر الحياة في مفردتين اثنتين لا ثالث لهما وهما أساسا متضاربتان في المعنى فيجعل من هذه العبارة محل نقاش و جدل.
كثيرون تبنوْا هذه العبارة فجعلوا منها مبدءا في حيواتهم وشعارا لمعاملاتهم، و ذلك باعتبار أن الحياة مبنية على المقايضة، مقايضة لا تشمل المستوى التجاري فحسب بل تعدته إلى الاجتماعي بكل ما يشمله من أبعاد إنسانية؛ أبعاد لطالما اقتضت العطاء دون أخذ أو مقابل مادي. فالإيمان بمثل هذه القولة يُفقد الإنسان إنسانيته ويحوله حتما إلى آلة مبرجمة على مبدأ وحيد دون سواه : إنه مبدأ المقايضة. فماذا لو أصبح الجميع يعملون بنفس المبدأ؟ ألن يكون هناك ظلم لمن ليس له ما يعطي وهو في أمَسِّ الحاجة للأخذ؟ وعليه فالحياة حتما لا تقتصر على عطاء يستلزم الأخذ، وإنما هي أسمى من ذلك بكثير، فالأساس الذي يُرجى أن تبنى عليه ويُربى عليه الفرد هو العطاء أو بالأحرى السخاء الذي هو أشمل وأوسع نطاقا من العطاء، يستهدف أساسا المحتاجين والضعفاء، أو بتعبير أدق، أولئك الذي مسهم الضر وأعزُّوا نفسهم وجلَوها عن سؤال العبد، بل فردوا الله به وحده، أولئك الغير قادرين على مد أيديهم سواء للتسول أو للسرقة، و لكن كلهم أمل في أن يلمح أحد ضعفهم ويستشعر حاجتهم فيمد لهم يده ويعطيهم ما يسد حاجتهم ويشفى غليلهم ويسكت جوعهم، وهو غير منتظر للأخذ ولا حتى الامتنان، فهو بالتأكيد يود ذلك وبشدة وإنما مِن خالقه وإن أجَّله له إلى الآخرة فهي الأَوْلى والأحق، من مبدإ أن دنياه زائلة و الأحوال متقلبة، فلا خير يدوم إن لم يحفظه الباري، من منطلق أن العين حق، و ما من شيء يدفع هذه الأخيرة غير الصدقة، تلك المتخفية التي تمدها يد فتلتقطها أخرى في غير مرئى العموم، صدقة سترها المخلوق ليستره الخالق ويُنعم عليه بأضعافها، لا العلنية التي يبتغي بها صاحبها الشهرة والعزة وسط قومه وأفراد عشيرته، كي يبدو وسطهم سخيا ومتعاطفا مع الضعفاء.
إنه لمن البديهي أن كل ما هو مادي ليس بقدر أهمية المعنوي، فكلمة طيبة، دعوة خالصة، شكر حار وامتنان مقابل جميلٍ خير مئات المرات من شيء قد تأخذه مقابل خدمة، وكَأن الكلمات تتباين بتباين المواقف، فهو “جميل” إن كان بدون أي مقابل ولوجه الله، و لكنه يُسمى “خدمة” إن تقاضيت أجرا مقابله. 
جميلك ذاك قد يُذْكر به اسمك خيرا لسنين وقد يُخلد كصدقة جارية لك بعد مماتك، أما خدمتك تلك قد تنـسى لفرط أصحاب الخدمات وتعددهم، وقد تذكر خيرا ما دام أنها تجني منفعة معينة أو شرا إن لم تفعل. وهكذا يبدو جليا أن تخلينا عن مبدأ العطاء مقابل الأخذ أو العكس قد يُكسبنا إنسانيتنا فضلا عن محبة الآخرين بعد محبته عز وجل، لأنه وبلا ريب ذاك العطاء الذي لا يَنتظر صاحبه مُقابلا ماديا من بشر مثله هو خير وحسنة، و الحسنة بعشر أمثالها. فكفانا تشبثا بماديات الحياة، فهناك ما هو أرقى، وكفانا تشبثا بأقوالٍ لا أساس لها من الصحة، فهناك ما هو أسمى، فلِم لا نجعل من الحياة سخاء عوض أخذ وعطاء؟ فالخير قد يضيع في الدنيا بين البشر لكنه لا يضيع في الآخرة عند الباري، فلا تعمل اليوم لأجل الغد، بل اعمل في الدنيا لأجل الآخرة، ولا تجعل من عطائك فرصة لرقي مستواك الاجتماعي وزيادة رصيدك البنكي وإنما اجعل منه سبيلا لسمو ذاتك وارتفاع مكانتك في دنياك وآخرتك، فلا خير في دنيا تعيش فيها حياة قصيرة، بل ارجُ الخير في آخرة تُخَلَّد فيها أبدا عسى أن يكون مثواك الجنة. 

 

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي