قراءة في رواية “الفهد”

للكاتب Giuseppe Tomasi di Lampedusa

تستقي رواية “الفهد” لدجوزيبي طومازي دي لامبيدوزا Giuseppe Tomasi di Lampedusa أهميتها من عناصر متعددة، أولها كون المؤلف سليل أسرة أحد “الفهود” وهم طبقة النبلاء والأمراء الحاكمين للصقليتين ما قبل ثورة غاريبالدي، ثانيها اعتبارها طفرة من نوعها إبان صدورها، ففي الوقت الذي كان فيه الأدب الإيطالي ينحو منحى واقعيا جاءت رواية لامبيدوزا بشكل تقليدي وكلاسيكي بل وتم اعتبارها رواية تاريخية. أما ثالث الاعتبارات فهو فلسفة ال gattopardismo التي تنص على التظاهر بأنك تريد التغيير للحفاظ على الوضع الراهن، فلسفة تم اعتبارها جوهر الرواية من قبل الكثير من النقاد.
لهذه الأسباب وغيرها، تعتبر رواية “الفهد” من أعظم نصوص الأدب الإيطالي بالقرن العشرين، وسأحاول أن أفصل فيها بإيجاز مع دعوة لقراءة النص ومشاهدة الفيلم المقتبس عنه.


1- رواية “الفهد” رواية عن الحياة أم عن التاريخ؟
لطالما تم اعتبارها رواية تاريخية كونها تسرد بعض أحداث سقوط نظام “البوربون” الملكي و ثورة غاريبالدي مصحوبا بذوي القمصان الحمر، لكنه تعريف غير صحيح. الأحداث التاريخية حاضرة بالتأكيد لكنها لا تمثل الخيط المشترك للقصة، هي خلفية للسرد وما يحدث لا يدرك إلا من خلال حياة الأشخاص، من خلال حواراتهم وتقلباتهم، لذلك سيكون من الأصح تسميتها رواية حياتية romanzo di vita، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بطل الرواية يجعل من وجوده تشابكا للأفكار والأسئلة، وفي بعض الأحيان يعطي لنفسه إجابات حول ما يحدث له وكيف يمكن للواقع الذي يحيط به أن يتطور.

تشكل السنوات التي عاشها دون فابريتسيو فترة تحول عميق، حيث يجد البطل نفسه يعيش بين زمنين، أحدهما عجوز ومتعب، ينتمي إليه بناء على الوراثة وعلى سيرته الذاتية، والآخر جديد يجب عليه قبوله، لكنه لا يتعرف على نفسه فيه.

يجد الدُّون نفسه يعيش بين جيلين، أحدهما يموت والآخر مولود، لكنه لا يشعر أنه ينتمي إلى هذا أو ذاك. في هذه الظروف لا يمكن للرجل أن يجد مكانه اللائق، على الرغم من إدراكه لانحطاط الطبقة النبيلة، وهي الفئة التي يتم اقتلاعها ببطء وبلا هوادة بسبب الأحداث الاجتماعية الجديدة والأثرياء الجدد الذين شرعوا في الصعود، والتي تشعر أنها فقدت كل حافز وكل نموذج مثالي لها ليقاتل في سبيلها.

في ظل كل هذه الظروف، يشعر دون فابريتسيو بالإحباط تماما، فيصبح لامباليا للغاية، دون أي رغبة في إحداث ردة فعل، تعيس، لا يُعرِّف نفسه في الأحداث التاريخية التي جرت آنذاك، بل في عدم ارتياحه كشخص، في روحه المضطربة، التي ولد منها التشاؤم العميق سمة المؤِلَّف كله، أو ما يعرف بين نقاد إيطاليا بتشاؤم ليوباردي Leopardi.

2- التشاؤم “الليوباردي” سمة طاغية على روح الرواية
تأثر تومازي بفكر وقلم الشاعر Giacomo Leopardi وما بعده، فتوحد رؤية الحياة فقط بسلبياتها وإدراك التفاوت الهائل بين الرغبة في السعادة والصعوبات المرتبطة بالواقع وإمكانية التمكن من تحقيقها، أمور تجمع بين لامبيدوزا وليوباردي، وهناك العديد من الأمثلة التي تشهد على ذلك مثل الطريقة التي تميز كلا الكاتبين في البحث عن إجابات لضيق الروح من خلال التشكيك في الخلق.

أيضا نجد مثالا واضحا يؤكد دقة التحاور بين الشاعر والمؤلف قدمته الصفحات الأولى من “الفهد” حيث يجد الأمير نفسه عند غروب الشمس في حديقة palazzo dei Salina الجميلة، محاطا بعجائب الطبيعة وعطورها، لكن الانطباع الذي يشعر به مختلف تماما: “كانت الحديقة تصلح للعميان، فقد كان النظر القريب إليها إهانة، أما روائحها فقد كان يمكن أن تبعث على السرور والرضى، على الرغم من أنها لم تكن طيبة تماما. وكانت ورود (بول نيرون) التي كان الأمير نفسه قد ابتاعها من باريس، قد فسدت عما كانت في الأصل […] فتحولت إلى نوع من القرنبيط في مثل لون اللحم، يبعث على القرف إلا أنه يعبق برائحة كثيفة أو فاضحة تقريبا”. ص26

Giuseppe Tomasi di Lampedusa صاحب رواية الفهد

هذا الوصف هو مشابه جدا للوصف الذي يضمه كتاب ليوباردي الشهير “أفكار” والذي يصف معاناة الشاعر مع حدائق ريكاناتي Recanati مسقط رأسه واعتبارها مبعثا على الاستياء والحزن رغم جمالها الذي كان يمكن أن يفرح أي نفس متفائلة أخرى. (يمكنني أن أفرد مقالا آخر لمفهوم التشاؤم عند ليوباردي وبشكل خاص كتابه lo zibaldone).

إن الملاحظة الدقيقة لليوباردي تسلط الضوء على أشكال العنف والمرض والموت حيث يفترض أن عينا أخرى سترى الجمال فقط، وهذا ما فعله لامبيدوزا من خلال كلمات وعيون بطله، رؤية سلبية للعالم والخليقة، تنبثق من روح مضطربة لا علاقة لها بتاريخ وأحداث تلك الفترة، رغبة في التأكيد على معاناة الوجود، والألم والمعاناة المصاحبين للحياة.

3- مفهوم il gattopardismo (الفهدية) في الرواية
لطالما أعجبتني الطبيعة المبهمة للعبارة الرمزية في الرواية: “إذا أردنا أن يبقى كل شيء على ما هو عليه، يجب أن يتغير كل شيء”. نطق تانكريدي، ابن شقيق الأمير فابريتسيو سالينا المفضل. إنه رد سريع من ثوري عاقل يعرف ألم الصدع مع الطبقة المتراجعة ولا يريد أن يخونها بالكامل. تنحط عائلة البوربون، وتنحط الطبقة الأرستقراطية القديمة. “لا ، من فضلك”، يهمس دون فابريتسيو مستسلما، “نعم، بالطبع”، يرد ابن أخيه. وجهان من عالمين مختلفين يلعبان مقابل بعضهما البعض: القديم و الجديد.

“إذا أردنا أن يبقى كل شيء كما هو ، يجب أن يتغير كل شيء” هي عبارة تخفي، عند الفحص الدقيق، معنى مزدوجا، واضحا جدا في الوقت الحاضر. إذا أردنا إنقاذ أنفسنا، نحتاج إلى التغيير، لكن التغيير لا يجب أن يحدث: فهو لا يأتي من الخارج؛ يجب أن يظل كل شيء كما هو إذا أردنا تغيير كل شيء.

ربما يكون هذا هو قلب كل ثورة حقيقية: لسنا بحاجة إلى إيماءات مثيرة وتنهدات كبيرة وانتصارات. يجب أن يحدث التغيير في الداخل، مع احتلال الأجزاء الداخلية من روحنا لأن الماء يحتل وعاءا ، لأنه بمجرد زوال مخلفات التصريحات، يبقى كل شيء كما هو. ها هو المعنى المزدوج: إذا تغير كل شيء من الخارج، يبقى كل شيء كما هو؛ إذا بقي كل شيء كما هو، يمكن أن يتغير كل شيء داخليا.

هذه هي خلاصة مفهوم il gattopardismo الذي اشتهرت به الرواية، والذي تم، ويتم، استغلاله في السياسة أحسن استغلال ولكم في سياسيي العرب وإفريقيا خير مثال، ولكنه يبقى فكرة عابرة في النص وليس روحه كما يشاع.

4- “الفهد” رواية عن الثابت الميت وليس المتحول الحي
ظل مفهوم gattopardisme مسيطرا على تحليلات الكثير من النقاد، فاعتبروا رواية “الفهد” رواية عن التحول، فيما أنه عكس ما تعرضه الرواية.
الفهد لا يعبر عن أي استمرارية ولا بقاء للقديم، في الواقع إنها قصة انحطاط ونهاية عالم من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة. “حيث لم يبق شيء على حاله، كل شيء يتحلل وينتهي مثل الكلب الذي تم تحنيطه أولا ثم رمي بعيدا”. الفهد هي رواية عن الموت!

من ناحية أخرى، حرص لامبيدوزا عبر انتمائه لطبقة النبلاء في تصوير انحطاط هذه الطبقة الاجتماعية واندحارها. وفقا للامبيدوزا نفسه فالنبل “هو أفضل نظام اخترعه الإنسان للاقتراب من الخلود الجسدي”، فالنبيل يحمل في اسمه وأسرته وملامحه وصور أسلافه وعاداتهم وصمة الاستمرارية التي يود أن تدوم للأبد، لكن لا شيء يدوم للأبد، لتأتي رواية “الفهد” وتحدثنا عن موت طبقة النبلاء بلسان فرد منهم.

قراءة في رواية “الفهد”

فاطمة الزهراء زغدود

أعمل أستاذة للغة الإيطالية، أكتب مقالات باللغة العربية كما أترجم من الإيطالية للعربية. أهتم بالترجمة في مختلف المجالات كما أحب كتابة المقالات في مجالات الأدب، التاريخ، الحضارة، المثاقفة، الفن و غيرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *