رواية القاتل الأشقر

الطفولة هي التي تُحدِّد مصائرنا

إنّ ما عرفتهُ الرواية العربية عموماً، والمغربية خصوصاً، من تطوّر وازدهار يجعلنا نسعد بذلك كثيراً، لأنّ الأعمال التي صدرت خلال السنوات الأخيرة تؤكد أن الرواية بخير، ولها أفق، وهذا راجع بالأساس إلى الرؤى التي يبلورها الكُتّاب، والمواضيع التي يختارونها بعناية، ناهيك عن اللغة الباذخة التي يوظفونها. الروايات المغربية التي صدرت قبل سنة 2010، يمكنني القول، إذا جاز لي التعبير، أنها روايات ضمّت مواضيع مستهلكة تعود إلى فترة السبعينات إلى حدود التسعينات من القرن الماضي، ليس مجملها طبعا، لأن هناك من صنعوا الاستثناء، وتناولوا قضايا آنية. إن الانكباب على تحليل وتفكيك قضية راهنة تجعل الكاتب متوجساً منها إلى حدٍّ كبير، لأنه لا يعرف مستقبلها ونهايتها، ثم يكون حذرا أثناء الترويج لفكره وخلفيته الإيديولوجية أثناء تطرقه لتلك القضية، ثم أن التعامل مع هذه القضايا المعاصرة يلزم التحلّي بموضوعية كبيرة جداً.

تعدّ رواية القاتل الأشقر للكاتب المغربي طارق بكاري، الصادرة في طبعتها الأولى سنة 2019، عن دار الآداب اللبنانية، فصماً في تاريخ الرواية المغربية، وأنا بطبيعة الحال على وعيّ لما أقول، وهذا ما جعلها تتبوّأ مكانة مميزة، وحتى أصداءها كانت جد طيبة، وسأحاول تبيان السرّ وراء نجاحها.

تحكي الرّواية قصّة شابٍ ولد وترعرع في ماخور، وقد عاش طفولة طغى عليها التمزّق والضياع، ولم تخلو فترة مراهقته من المشقّة والأسى، ليقع بعد ذلك في حبّ شامة، التي تتقاسم معه السكن في الماخور، أحبها حبّاً جارفا، ظناً منه أنّ هذا الحبّ سينتشله من الأسى والبؤس والإملاق الذي يعيشهُ، بيد أنّ هذا الحب هو الذي قلب حياته رأساً على عقب، ليجد نفسه متهماً في جريمة قتل؛ قتل أخيه التوأم بعدما ذاع صيت فيديو تظهر فيه حبيبته شامة، التي لم تقاسمه نفس الشعور، وهي تمارس الحب مع أخيه التوأم، ولأنّ الشبه بينهما واضح، وجد أشقر نفسه مضطراً للاعتراف بما لم يرتكبه، ليزج به في السجن. ما إن يبرح السجن حتى وجد نفسه قاتلاً لعشيقته، التي عشقها بعمق، هنا بدأ جحيم من حياة عنوانها القسوة والمشقّة.

مذ أن كان شاباً لطّخ يده بالدم، ليحترف القتل فيما بعد، وينفذ جرائمه بحرفية ودقّة كبيرتين. بيد أنّ جرائمه كان ينفذها وبداخله صدقاً ورقّة وصفاء، الأمر الذي يطرح سؤال شائكاً: إذا كان صافياً من الداخل فلما يجد لذته في سفك الدماء؟ الإجابة حتما سنعرفها مع توالي أحداث الرّواية. إنّ عمليات القتل التي نفّذها هي سليلة طفولة ممزّقة، تجرّع فيها مرارة الألم والحزن، ويكون بذلك الكاتب قد أثار نقطة جوهرية لا يمكن إغفالها ألا وهي الأحداث التي تشكل طفولتنا، بأفراحها وأتراحها، بالنجاحات والإخفاقات، تلاحقنا طيلة العمر، لتبقى مختبئة في تلافيف الذاكرة، لا تبرحها، وتطفو على حين غرّة، وهي ذكريات لها تبعات وعقابيل نفسية وخيمة، فشخصية القاتل الأشقر خير مثال على ذلك.

التقى أشقر بصحفي لبناني يدعى وليد معروف بعد أن جمعتهما غرفة في كوباني ضمن تنظيم داعش، ليسرد وليد معروف، بعدما جاء إلى المغرب لإنجاز تقرير يتناول فيه قضية الدعارة وتفشّيها، ذكرياته مع الأشقر بسلاسة منقطعة النّظير، جعلت القارئ في حالة من التعاطف مع أشقر رغم ماضيه الوسخ وجرائمه الوحشية. لماذا سيجد القارئ نفسه متعاطفا، دون هوادة، مع الأشقر؟ السبب هو أنّ أقدارنا لا نختارها، إذ هي حتمية ولا يمكن مجابهتها، وبالتالي ما علينا إلّا التماهي معها، وإلّا سنجني على أنفسنا الألم والمشقّة.

فتح الأشقر عينيه في وكرٍ للدعارة، ورأى مشاهد فاضحة، وسمع كلمات منتقاة من قاموس كلام المقذع، كما أنّه كان شاهداً على ما عاشته أمه من قسوة، بعدما صارت تقيم علاقات ميكانيكية تفرغ عبرها الشهوات الطائشة، من أجل أجرٍ زهيد، ليلاحظ الأشقر تلاشي أمه أمام عينيه، ويراقب وضعها، الذي دخلته قسرياً، في صمتٍ وذهول. تراكمت هذه المشاهد وأفرزت لنا شخصية مرعبة، لا تسأم من سفك الدماء. سرد أشقر طفولته لـ وليد معروف الذي اتكأ على حكايته ووضعها كديباجة لإعداد ذلك التقرير حول ظاهرةٍ تنامت وتفشّت بشكلٍ كبير جداً.

المذهل في حكاية الأشقر أنّه لم يعد قاتلاً محترفاً بمحض الصدفة، صحيح أن خيانة حبيبته له، أججت بداخله نار الحقد الدفين ليبدأ مسلسل جرائمه، لكن حرفية القتل رضعها من ثدي أمه التي قتلت العديد من ضحاياها التي اختارتهم بعناية فائقة. هرب أشقر إلى أوروبا متخفياً، خائفاً، يحمل بداخله نفسية مهزوزة، وذكريات مؤلمة تنخرهُ وجعلته على شفا هاوية. واصل فراره متنقلاً بين بعض الدول الأوروبية إلى أن وصل إلى سوريا وانضم إلى تنظيم داعش ليقاتل في صفوفه. هذا التنظيم الذي يبيع الوهم للمنضمين إليه ويجعلهم يعيشون حياة قاسية كلها دم وقتل وقطع للرؤوس، ويختار بدقة من ينتدبهم مستغلاً قصورهم الفكري والظروف النفسية والاجتماعية التي تجعلهم ينضمون دون أن يفكروا ولو لبرهة في الخطأ الجسيم الذي سيرتكبونه وسيندمون، لكن بعد فوات الأوان.

استلهم الكاتب طارق بكاري إشكالية مستعصية من رواية الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الموسومة بـ: الجريمة والعقاب، هي إشكالية الفعل الأخلاقي لمرتكب الفعل الإجرامي. نستحضر هنا قصّة بطل الرواية راسكولنيكوف المتشبع بأفكار الليبرالية والذي ارتكب جريمة نكراء بقتله لعجوزٍ شمطاء لها ثروة اكتسبتها بطرقٍ غير مشروعة ولم يستفد منها المجتمع شيئاً. قدّم دوستويفسكي شخصية راسكولنيكوف على أنّه إنسان مثقف وطموح، رأى في مال العجوز منفعة للمجتمع فأقدم على جريمته النّكراء. السؤال المطروح: هل يعاقب راسكولنيكوف لأنه قتل عجوزاً لم تسدِ منفعة للمجتمع؟ أم لا يعاقب لأنّه أنفع للمجتمع من الضحية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لم يخلّف وراءه دليلاً كافياً لإدانته.

رواية بحبكة سردية محكمة، ولغة بديعة، والتمكن من القفز على حبال الكلمات بشاعرية مبهرة، إلى جانب حضور مكثّف للحكم التي هي نتيجة تراكم تجارب كبيرة وعميقة اختمرت، كما لا أنسى أهميّة الموضوع المناقش: نزعة الجريمة وظهور التنظيمات الإرهابية المتطرفة والبؤر المتوترة التي دمرت أفراداً في ريعان شبابهم وأرعبت دولاً وشعوباً متخفية وراء شعارات كاذبة، كما لا أنسى طابو الجنس الذي يعدّ من المواضيع المحظورة في المجتمعات العربية، وقد تجرأ الكاتب على معالجته ومناقشته بشكلٍ عقلاني، معتبراً أنّ أوكار الدعارة التي تعج بفتياتٍ تلاشت أحلامهن الوردية، هن في الأصل لم تكن لهنّ القوة لمقارعة الظروف القاهرة التي استبدّت بهن، ليجدن أنفسهن سالكات لطريقٍ تؤدّي حتماً إلى نهاية مأساوية.

رواية القاتل الأشقر

سفيان البراق

طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *