لماذا أصبحت التفاهة عنوان حياتنا

قانون باركينسون للتفاهة

ينص قانون التفاهة لباركينسون Parkinson’s law of triviality على أن الوقت الذي نمضيه في التفكير أو في مناقشة أمر ما يتوافق عكسيا مع مدى أهميته واستيعابنا له، فقد تمضي -حسبه- لجنة ما في مناقشة مشروع بناء مفاعل نووي خمس دقائق لا أكثر في حين تستغرق خمسا وأربعين دقيقة من أجل تمرير مشروع بناء مرآب لصف دراجات العمال مثلا، وهو ما يعكس رغبتنا في تمضية وقت أكثر في التفكير أو في القيام بأمر تافه بدل استنزاف أنفسنا في التعمق في مسائل تتطلب مجهودا عقليا مضاعف.

وبالرجوع إلى المثال الذي أورده “باركينسون” من أجل شرح فكرته، نجد أن لجنة المناقشة لم تمنح وقتا كافيا للمشروع الأول (بناء المفاعل النووي) لأن معظم المناقشين له لا يملكون قدرا كافيا من المعلومات حوله فيكتفون بالتصويت لصالح المشروع مع تعقيب بسيط لمدى أهميته والضرورة الملحة لتبني مشاريع مماثلة مستقبلا، في حين تمنح نفس اللجنة وقتا أطول ومداخلات أكثر للموضوع الثاني (بناء المرآب الخاص بدراجات العمال) رغم كونه ذا تكلفة مادية أقل وأهمية أقل أيضا، فقط لأن مدى استيعابهم للمشروع أكثر وفرصة اقتراح تعديلات شكلية عليه أو مناقشة أهميته أكبر.

وضمن نفس المبدأ، بات واضحا على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي أن التفاهة قد طغت على التفكير فيما يخص كيفية معالجة مواضيع الساعة أو تلك المواضيع الموجودة منذ عقود ولازالت إلى يومنا هذا تبحث عن حلول، إذ باتت التفاهة تتحكم في مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي ونوعية المواضيع التى تأخذ الحيز الأكبر من تفاعلاتهم.
وهو ما نلاحظه عندما يتعلق الأمر بمسائل مهمة وحساسة مثل قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تسابقت عليه بعض الدول العربية مؤخرا أو قضية تطاول الرئيس الفرنسي على الرسول محمد واستفزازه لملايير المسلمين عبر العالم أو حتى تلك القضايا المتعلقة بالقتل والتحرش والاغتصاب، كحال قضية الطفلة الجزائرية “شيماء” وقضايا اختطاف الأطفال والتحرش بهم ثم التخلص منهم، وغيرها من القضايا التى من المفترض أن تلقى صدى أعمق من أيقونة “أحزنني” أو “أغضبني” لدى مختلف الشرائح الاجتماعية.

في مقابل ذلك، نجد مواضيع ثانوية إن لم نقل سخيفة وتافهة تحصل على ملايين المشاهدات ومئات المشاركات؛ نستعرض منها قضية الممثلة الجزائرية التى ضجت بها مختلف مواقع التواصل الاجتماعي ولأيام عديدة بعدما قامت هاته الأخيرة بتصوير فيديو تنتقد فيه ظاهرة التحرش في الجزائر بأسلوب فيه نوع من التعميم وبشاعة التعبير ليترك مرتادي المواقع الإلكترونية الفكرة ويهاجموا شخصها بأسلوب لا يقل عن بشاعة عما تفوهت به، لتقوم معارك إلكترونية بين مؤيد ومعارض لا تهدأ إلا بموضوع لا يقل تفاهة عن سابقه يزيحه جانبا ليشغل العالم به أياما أخرى.
وهو الأمر الذي استساغته شركات مواقع التواصل الاجتماعي فاستغلته استغلالا متقنا، معتمدين بذلك على قانون التفاهة من أجل تحصيل عائدات مالية خيالية، وهو حال بعض الأنظمة السياسية التى أتقنت بدورها لعبة تمرير قانون التفاهة وإغراق العالم بالتفاهة للتعتيم على قضايا أكثر أهمية وخطورة تُحاك في الخفاء.

لماذا أصبحت التفاهة عنوان حياتنا

سلمى بن دعاس

استاذة لغة فرنسية. مهتمة بالادب.. بالترجمة و الكتابة الفلسفية كتبت رواية تحمل عنوان (عندما نشتهي..نشتري).

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *