“ذاكرة حبيبة” -الجزء الأول-

في ليلة شتاء باردة ارتدتْ جلبابها وأسرعت نحو الباب، فلها موعد مع حبيبها الذي ألمَّ به المرض طيلة نهاية الأسبوع، أدارت مفتاح السيارة الأتوماتيكية الغريبة عنها، فهي لمْ تكن معتادة بعدُ على سياقة هذا النوع من العربات، كانت لهفتها لرؤيته تغطي خوفها من الطريق ومخاطره، كان أكبر تخوفاتها أن ترتكب حادثة بها أو تفقد السيطرة عليها، لكن هيهات ثم هيهات، فقد كانت رغبتها في الاطمئنان عليه تتجاوز منطق الخوف على نفسها. 
في الطريق، عرّجَتْ قليلا صوب محل للورود فتوقفت واقتنت له وردتين واحدة حمراء والأخرى بيضاء وبطاقة صغيرة خطّتْ فيها؛ “حبيبي أدعو الله أن يكف عنك الضر وأن يستبدل مرضك بصحتي”. بهاته الكلمات خَتمتِ البطاقة، قبل أن تتذكّر أنه يحب ‘البسكويت’ الناعم كطفلٍ صغير، فتوقفت عند مركز تجاري صغير واختارت له ما يُفضّله فيه، كيف لا وهي عارفة بذوقه أكثر منه فقد كان طفلَها قبل أن يكون حبيبها. 
عادت مرة أخرى إلى السيارة وهي تسارع الزمن لكيْ تلقاه، مرت عليها العشرون دقيقة كعشرين سنة وهي تفكر في حالته الصحية. في طريقها كانت تفكر كيف ستعوّضه عن أيام مرضه؟ كيف ستقلص من ضغطها عليه وهي العارفة بإيقاع حياته الضاغط؛ حلول كثيرة تراقصت في ذهنها تلك الليلة، بالرغم من أن موعد اتفاقهما المقرر ما زال يفصلهما عنه شهر كامل، لكنها رغبتْ أن يمر الشهر أحسن من سابقيه. 
بين الفينة والأخرى، كان يزورُها ألم شديد يُفقدها التركيز على الطريق لكنها لم تُعِره أدنى اهتمام، فقد كان هو محور الحياة لديها. وصلت إلى المكان الموعود وأرسلت له رسالة قصيرة “حبيبي لقد وصلت”. رد عليها أنه لا زال أمامه قليل من الوقت، أجابته بابتسامة مفادها سأنتظرك حتى الفجر لم تحس ببرودة ليالي الشتاء وهي تنتظره داخل سيارتها الصغيرة بل على العكس كانت حرارة انتظاره تبعث دفْءً في الأجواء. 
بعد برهة، أوقف سيارته خلفها، حملتْ طِفلها الصغير وترجّلت، نسيتِ الورود والبسكويت. رأتْ عينيه ذابلتيْن مُحمَرّتَيْن ووجهاً شاحباً متعبا، طبعت قبلة صغيرة على خده الأحمر، سألته عن حاله وأحواله، و سال مداد الكلام بينهما. الساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلا وهما لا زالا يتحدثان.. في لحظة صمت، قال لها إنه يريد أن يبدأ حياته في ضفة أخرى، وإن محاولته للحب باءت بالفشل بل وميؤوسٌ منها. قبل أن يضيف أن امتداد علاقتهما لم يكن إلا ليُرضيها هيَ فقط.. وكلام كثير تفوَّه به لم تتذكره ربما لطفا من الله بها، لم تعارضْه ولم تناقِشْه فيه، على العكس استجمعت قواها وشجعته، ربما اختلط عليها عزة النفس بالحب البسيط الذي أحبته به لدرجة أن تُفضّل مصلحته عليها. 
شعرتْ بالكلام غُصّة في حلقها وأحكمَت جماح دموعها وحزنها بابتسامة عريضة وعينيْن بارقتيْن. لكن سرعان ما انهار الدمع عند أول سؤال منه عن سببه. اختلطت عليها الدمعة بالضحكة، لم تُرِد أن تنهار أمامه، كانت أقصى أمانيها تلك الليلة أن تجد نفسها وسط سريرها وتنام، هاربة من هذا الموقف الصعب الذي وجدت فيه نفسَها على حين غرّة. 
ودّعتْهُ وهي مبتسمة كعادتها. حملت طفلها مرة ثانية ووضعته في سيارتها. قادَتْ هذه الأخيرة نحو بيتها وهي تائهة في بحر عميق بين مشاعر الحب وأنانيةِ محبوبٍ لم يكلف نفسه عناء دراسة الزمن والمكان المناسبيْن لإعلان قراره. 
وجدتْ نفسها فجأة أمام بيتها؛ كيف وصلت ومتى؟ لم تعرف، صَعدتْ بسرعة إلى غرفتها. استبدلت ثيابها، ونامت نوماً لم تنمْهُ طوال حياتها.. 
 
Exit mobile version