السلطان الذي لن يكرره الزمان

سيرة مولاي سليمان بن محمد

إن ما يلفت النظر والاهتمام في قراءة سيرة سلطان من السلاطين أو ملك من الملوك في زمن من الأزمان، هو ذلك الموقع الذي يحتله في قلوب الرعية، وخصاله الحميدة المحبوبة، وسلطته في سد كل خلل يهدد أمن الدولة، ومناقبه في رد حق المظلوم وإدانة الظالم، ومحاربة الفساد عند نشوبه، ولينه من جانب وشدته من جانب آخر…

سلطان الدولة العلوية مولاي أبو الربيع سليمان بن محمد بن عبد الله بن اسماعيلالملك الذي اجتمعت فيه من الخصال ما تفرق في غيره؛ أحبته الرعية ولهجت به الألسنة لحسن سيرته وطيب سريرته، لقد كان الرجل الصحيح في المكان الصحيح، حيث قدر مكانته ومسؤوليته تجاه الدولة حق قدرها فعمل بمقتضى هذه المكانة، وعند توليه العرش أدرك أن وقت الجد قد حان و أن وقت اللهو قد فات، فطوى صفحة الماضي وعزم عزْم الرجال أن يكون كفؤا لما هو مقبل عليه.

لقد كان والده سيدي محمد بن عبد الله يفتخر به على رؤوس الخلائق ويدعو له بالخير والصلاح وكما جاء في كتاب الإستقصا يقول: “إن ولدي سليمان رضي الله عنه لم يبلغني عنه قط ما يكدر باطني عليه فأشهدكم أني عنه راض”.

لقد نشأ في كنف العلم والعلماء وعلى أيدي الفقهاء والصلحاء، فكان من جبلته أن ينقاد لما غُرس في قلبه من إيمان صادق وعقيدة راسخة وعلم غزير وحبا لأهل العلم والتقوى وإحياءً للسنة المطهرة.. ما كان يحتكم بحكم هواه ولا يتخذ قرارا بدون مشورة أرباب العلم، إن الدين هو الموٓجِه في حياة هذا السلطان يأتمر بأمره وينتهي عند نهيه،
وعُرف عهد السلطان سليمان بعهد الخصب والنماء والخيرات الكثيرة والبركة المديدة والسعادة التي تعم الرعية، ويقول المؤرخ أحمد بن خالد الناصري في كتابه الإستقصا الجزء 7 في هذا الصدد ما نصه: “واتفق له في أواسط دولته من السعادة والأمن والعافية ورخاء الأسعار وابتهاج الزمان، وتبلج أنوار السعد والإقبال، ما جعله الناس تاريخا، وتحدثوا به دهرا طويلا، حتى صارت أيام السلطان المولى سليمان مثلا في ألسنة العامة”.

ومن رفقه للضعفاء والمساكين ومن وفور عقله وعدله تم إسقاط المكوس (الضرائب) التي كانت مطبقة أيام والده على حواضر وبوادي المغرب في الأبواب والأسواق وعلى السلع والغلل، فقد كان يسعى كل السعي لتسهيل معيشة رعيته، ويسلك كل مسلك خير لتذليل العقبات وتيسير الأزمات.

السلطان سليمان بن محمد

يحدثنا التاريخ أن السلطان المولى سليمان ما كان يخوض أغلب حروبه إلا كان هو المنتصر على أعدائه، مؤيداً معززا برحمة الله التي تحفه من كل جانب، وقد منّ الله عليه باسترجاع وجدة وأعمالها من يد الترك، كما نصره في معاركه العديدة بين القبائل البربرية منها والعربية المتمردة التي تخلع جلباب الطاعة وتكشف وجه العصيان فكان المولى سليمان لها بالمرصاد يحيي السنة ويخنق البدعة قبل نشوبها.

شهدت فترة السلطان نهضة علمية قل مثيلها، وذلك يرجع إلى اهتمامه بالعلم النافع والعمل الصالح، فقد كان المثل الأعلى والقدوة الصالحة به تهتدي الرعية وعنه تنتهج سيرتها، جاء في كتاب “ضحى الإسلام” للكاتب أحمد أمين قول: {أن الخليفة له أثر عظيم إذا صلح، ذلك أن العامة لا تصلح إلا بصلاح الخاصة، والخاصة لا تصلح إلا بصلاح إمامها، سلسلة يأخذ بعضها بحجزِ بعض، لأن العامة تقلد خاصتها في شؤونها، وتتبعها في سيرها، فإذا كان الخواص من ذوي الدين والعقل كان في ذلك صلاح العامة، وموقف الخاصة من الإمام موقف العامة من الخاصة}.

فهذه الروح العلمية البارزة في شخصية السلطان، دفعته للعناية بالعلم ومريديه، وتخصيص المكانة العليا للعلماء والباحثين، فأصبح التنافس على العلم والتفرغ له والانقطاع إليه غاية كل شاب طموح.

وكانت له اليد البيضاء في تشجيع طلبة العلم على الإطلاع والتلقي وتأليف الكتب والإسهام في توفير كل الحاجيات لتذليل العقبات كجلب الكتب من المشرق وبناء المدارس في البوادي والحواضر، وقد شرع المؤرخ الكبير ورجل الدولة “الزياني” في تأليف كتابه “ترجمان المغرب” بإشارة من السلطان الذي كان بدوره يسهم في حركة التأليف وذلك من خلال مؤلفاته و رسائله و مقالاته التي تعتبر آثاراً علمية مهمة مثل كتاب :«عناية أولي المجد، بذكر آل الفاسي بن الجد» ورسالته بعنوان :«جواز التجمير بالقسط في رمضان» …

إن من جِبلة الإنسان أن يهب أغلى ما يملك لذريته، وأكبر إرث يستطيع الإنسان أن يمنحه لأولاده هو “السلطة والحكم”، بينما السلطان سليمان لم يحذو هذا الحذو ولم ينجرف مع تيار العادات والتقاليد بل ولّى الأمر من بعده لإبن أخيه “عبد الرحمان بن هشام” رغم كثرة عدد أولاده، إن “الحكم” مسؤولية على عاتق من يترأسه فاختار رحمه الله من تتوفر فيه مخايل الخير والنجابة وذو العفة والصيانة كما وصفها في وصيته التي يقول فيها :{.. ولا أصلح من هذا الأمر منه حفظه الله، لا يشرب الخمر، ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب ولو مٓلك مُلك المشرقين..}.

فرحمة الله عليه قد أقام حق الله وحق رعيته ما كان ظالما ولا فاحشا ولا ارتكب جرما ولا سفك دما بغير موجب، كان حليما تقياً ساعياً للخير أنّى وجده. ورثاه الكاتب البليغ أبي عبد الله محمد بن ادريس الفاسي في قصيدة مطلعها:

نبأ عرا أوهى عُرى الإيمان
وأبان حسن الصبر عن إمكان
شقّت لموقعه القلوب وزُلزلت
أرض النفوس ورُجّ كل مكان
فقْد الإمام أبي الربيع المرتضى
جزعت لعظم مصابه الثقلان
وبكت عيون الدّين ماء جفونها
وجداً عليه وكل ذي إيمان

السلطان الذي لن يكرره الزمان

فاطمة الزهراء عابيدي

ممرضة متدربة بمدينة العيون، 20 سنة، عاشقة للتدوين وشغوفة بالقراءة العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *