“رأسملة” الحب

بدءًا قبل أن نسائل ذواتنا عن ماهية الحب، وجب علينا أن نسائل أولا عيد الحب أو ما يسمى بـ”الفالنتيْن” كمناسبة وطقس احتفالي اجتماعي مُعوْلم أُفرِغ من بُعده الروحي العاطفي عن جوهره وماهيته في زمن يحكمه منطق الرأسمالية. 
تعود قصة هذا اليوم (14 فبراير) إلى التراث المسيحي خاصة مع الكنيسة الغربية، حيث بدأت الحكاية مع قديس مسيحي يعتبر من أشهر القديسين، يدعى “فالنتين”، عاش تحت سلطة الإمبراطور الروماني كلاوديس في أواخر القرن الثالث ميلادي. كان هذا الإمبراطور يَمنع زواج الجنود لسبب عسكري تجلى في كون العُزاب يقاتلون بشراسة حماسية وشجاعة لا توجد عند المتزوجين؛ إلّا أن القديس فالنتين إيمانا منه بقيمة الحب الذي سينقذ العالم من بؤس عدوانية الإنسان أخذ على عاتقه تزويج العشاق خلسة في كنيسته. مرت الأيام وهو ملتزم بخدمته للحب حتى تم اكتشاف أمره من طرف الإمبراطور فحُكم عليه بالإعدام الذي جرى يوم 14 فبراير سنة 270 ميلادية، ليدخل إلى التاريخ من بابه الواسع كـ”شهيد” في سبيل الحب والعشق. 
هكذا صار يوم 14 فبراير ذا دلالة رمزية تحمل معاني التضحية في سبيل الحب؛ فتحوَّل إلى مناسبة لإحياء هذه الذكرى الطوباوية للحب، تقام له طقوس احتفالية حيث يحتفل فيه الحبيبان بحبهم. 
بنظرة متفحصة إلى واقع هذا العيد في القرن 21، تستفزّنا ثلة من الأسئلة نبسطُها كالآتي: إنْ كان هذا العيد محصورا في التراث الغربي المسيحي فكيف ولماذا انتشر في بقاع العالم حتى داخل المجتمعات الأكثر انغلاقاً وتشبثاً بثقافتها، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية؟! وكيف اخترق هذا العيد كل الطبقات والشرائع الإجتماعية؟ كيف يجعل من إنسان مقهور يعيش في العالم الثالث لازال يعاني من “إشكالية الخبز” بتعبير عبد الرحيم العطري يُلزم نفسه بالاحتفال به (الفالنتين) وتخصيص ميزانية مالية كبيرة له من جيبه المثقوب الذي أعْياه الدهر؟ وما معنى أن يكون هذا اليوم عظيما ترتفع فيه أرباح الشركات الرأسمالية؟ 
هي أسئلة تُنقب وتبحث وتنبش فيما يسمّيه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو بـ”البديهيات الإجتماعية” التي وَجَب اختراقُها ومساءلتها ونزع الستار عنها، خاصة وأن وراء هذه البديهيات تكمن آليات هيمنة المُهيْمِنين. قد لا ينكر متأمل أن هذا العيد فعلا ترسخ بشكل مازوخي في “الهبيتوس” الجَمعي للمجتمعات؛ وأخص بالذكر مجتمعاتنا كبديهيات ومُسَلّمات لا تقبل النقاش؛ فلا نستغرب أن شريحة اجتماعية واسعة من المحتفلين بهذا اليوم لا يفقهون ولا هُم على دراية بأصله وماهيته؛ فمثلاً، الإنسان العربي، بالخصوص، لا يحتفل بهذا الطقس عن قناعة بل يحتفل من أجل أن يحتفل ويفجّر مكبوتاته في ليلة هذا العيد “المبارك”؛ ومما لا شك فيه أن هناك من استغل هذه الذكرى ومشاعرها ليسهر على ترويجه وغرسه في صلب الثقافة الجماهيرية تحقيقاً لمصالح اقتصادية أكثر مما هي قيمِية ثقافية. 
هنا يمكن الاستشهاد بـ”مدرسة فرانكفورت” النقدية التي وضعت في صلب اهتمامها معالجة الثقافات (ثقافة الاستهلاك) التي وُلدت من رحم الرأسمالية؛ هذه الأخيرة التي سَلّعتْ وشيَّأتْ كل القيم الإنسانية والروحانيات بما فيها “الحب”، لتجعلها موضوع “بيع وشراء واستثمار”، وتخلق بهذا إنساناً مُغترباً عن ماهيته ذا بُعد واحد (مادي) كما سمّاه هربرت ماركيوز. يقول لوكاتش أحد رواد هذه المدرسة “إن كل إنسان يعيش في الرأسمالية فإن التشيُّؤ هو الواقعة المباشرة له”. يُحاجج لوكاتش وزميله كورش أن التشيؤ ظاهرة محورية في الهيمنة الرأسمالية التي تؤمن بالربح ولا شيء غيره في المجتمعات المعاصرة، وقصد تشييء قيمة إنسانية يكفيك أن تجعلها موضوع متعة ورغبة استهلاكية مغلفة بشعارات ثقافة الاستهلاك والبذخ التي ساوَت بين الفقير والغني في المظاهر. 
بالعودة إلى عيد الحب والنظر إليه بعين سوسيولوجية فلسفية ثاقبة، نجده قد استُغِلّ بتغليفه بشعارات رأسمالية عالمية حيث ارتبط بمنتوجات استهلاكية كالشوكولاتة وبطاقات المعايدة والدّمى والملابس الفاخرة ذات اللون الأحمر، فغدا هذا اليوم، بعد أن كان مجرد يوم لإحياء ذكرى القديس فالنتين، إلى يوم لإحياء ثقافة الاستهلاك. لذا لا نستغرب مما وصلت إليه إحصائيات قامت بها “الرابطة التجارية لناشري بطاقات المعايدة” في الولايات المتحدة الأمريكية، بيّنتْ أن عدد بطاقات عيد الحب التي يتم تداولها في هذا اليوم في كل بقاع هذه الأرض الواسعة تبلغ مليار بطاقة! هذا بجانب ارتفاع كبير لمبيعات الدمى خاصة “دمية الدب”، وكذا الورود الاصطناعية، هذا دون ذكر المبيعات الضخمة لشركات الشوكولاطة، بل وامتدت ثقافة الاستهلاك هذه، في الأونة الأخيرة، إلى التهافت على الأجهزة الإلكترونية خاصة الهواتف الذكية التي تقدَم كهدايا وعربون للحب.. 
ولربّما تنميطُ الإحتفال بهذا اليوم وعولمتُه عن طريق حملات إعلامية تتحكم في المجال العام بمباركة الشركات الرأسمالية الكبرى، ما فتئ أن جعل من الحب، كشعور روحي عاطفي، تحت إمرة أباطرة الرأسمالية وشَرّهم، فأضحى وسيلة لمراكمة الأرباح وحلب جيوب إنسان القرن 21 ، وتحويله إلى “روبوت” مبرمج على الاستهلاك باسم “وَهْم الحب”. 
إنّ خطورة “رأسملة” الحب تطفو على السطح بوضوح عندما يصبح معيار الاحتفال بهذا العيد معيار استهلاكٍ مادي محض وكوسيلة للتباهي والتمايز. فعلاً، نحن هنا إزاء ثقافة استهلاكية تمت صناعتها وإلصاقها بهذه المناسبة التي لا تنفصل عن عقدة مكبوتات المستهلكين. 
الحب، بعيداً عن منطق رأسمالية عيدِ الحب المعولم، هو شعور إنساني سامي يخاطب الروح لا يخضع بتاتا للمنطق المادي.. هو شعور لا يحتاج لا ليوم رسمي ولا ليومين ولا لأسبوع ولا لشهر لإحيائه والإحساس به، بل هو شعور يجب أن يرافق كينونتنا البشرية في كل ثانية ودقيقة وساعة ويوم وسنة.. الحب هو ذلك المَلاك الذي يلاقي الأرواح فيما بينها لتحلّقَ بعيداً عن مازوخية المادة ووقائع الاستلاب والاغتراب. 
الحب قيمة تنطوي تحت رايته جميع القيم الإنسانية النبيلة. فقط، أحبَّ مَن تُحبه وليُحبك مَن تُحبّ باسم قيم إنسانيتك بعيدا عن منطق التباهي المادي.

Exit mobile version