برد دافئ

من وحي الواقع

لا شك أن الجو بدأ يتغير في هذه الفترة الخريفية، فبدأ ينتابنا الإحساس بالبرد رغم الشمس الدافئة التي تسطع نهارا، إلا أن من يستيقظ في الصباح الباكر أو من يتأخر في الرجوع إلى المنزل مساء يشعر ببرد تقشعر له الأبدان، وتشتهي الدخول إلى دفئ المنزل أو زيادة قطعة ثوب فوق المنكبين..

ونحن على مشارف استقبال فصل الشتاء، فصل الأمطار والغيوم والبرد القارس والحاجة الشديدة إلى الدفئ لحماية الجسم والأطراف، كانت المدينة أنذاك شديدة البرودة، كأنه السم يتغلل حتى النخاع؛ أنف محمر ويدان منتفختان بدأتا بالاسمرار، تكاد لا تشعر بهما من شدة البرد. تستيقظ وأنت بكامل الشجاعة لمواجهة الجو القاسي الذي ينتظرك بالخارج، ترتدي ثيابا أكل عليها الدهر وشرب، ثياب لم تعد لها فائدة سوى ارتدائها فوق أخرى لكي تمنع دخول البرد فقط، لا لكي تدفئك.. ثياب فوق أخرى حتى تشعر بأنك لا تكاد تستطيع التحرك، سروالان اثنان أو أكثر مع الكثير من السترات التي شكلت بها كل ألوان قوس قزح وحذاء تأكدت قبل سنة أنه أفضل مدافع لك أمام الأمطار، ربما جوارب مع كيس بلاستيكي لكي تمنع دخول الماء وطبعا مظلة ملونة قد اشترتها أمك الحنون لك قبل أخيك الصغير.

أطفال تحت رحمة البرد

ثم يأتي صباح الاثنين، تستيقظ لكنك لا تطيق مغادرة فراشك لأنك تعلم حقا ما ينتظرك من دفئ في الخارج! ربما هو دفئ من نوع آخر تشعر به لاحقا.
تتناول وجبة الفطور التي أعدتها أمك أو أبوك الذي كان قد استيقظ للذهاب للعمل، ثم تفتح باب المنزل بعد استعدادك للتصدي لهذا الجو وبعد ارتداء ما جادت به خزانتك القديمة، أو تلك الملابس التي ضاقت على أخيك الأكبر.. متجها نحو مدرستك التي تعدك بالمعاناة.

وبينما تصل أنت لمنتصف الطريق تبدأ قطرات من المطر تنزل على خدك الصغير؛ تعرف أنك ستبلل لا محالة إن أكملت الطريق فتعود لتختبئ تحت سقف أحد محلات بيع المواد الغذائية، تسأله: كم الساعة؟ ثم لا تكاد تمر بضعة دقائق حتى تعيد السؤال مرة أخرى لأنك لا تريد الوصول متأخرا .. تكمل طريقك راكضا بعدها لتصل وتدخل الصف مع أصدقائك…

ربما كان الإحساس مختلفا، لم يكن البتة إحساسا بالمعاناة! كنت تسعد حين تفتح محفظتك وتجد الكتب غير مبللة بالماء، فقد استطاعت حمايتها تلك الأغلفة البلاستيكية.. وتزداد سعادتك مع شم رائحة أكل أمك من الباب وبالفطائر والشاي المسائي.

تكبر بعدها لتلاحظ أنها كانت معاناة لا يعيشها باقي الأطفال، ربما فقط الأصدقاء من حيك.. معاناة لا تزال تعاش ليس فقط كما نرى في أعالي الجبال أو في المناطق النائية، بل أيضا في أحياء مدن صغيرة باردة؛ تكبر فتذهب مغيرا الوجهة لإتمام دراستك الجامعية وهنا ابتسم لك الحظ لأنك ستذهب لمدينة جوها معتدل دافئ، لا تعاد أحداث الصغر كما هي لكن تظل تحمل معك ذلك الإحساس، وتصبح مهتما عند ملاقاة أشخاص ملاذهم الشارع أو أطفال مشردين بين الطرق، تحاول مساعدتهم وتتحرك بداخلك رغبة جامحة بضرورة إيجاد حل لهم في جو بارد. تتأكد من تشابه قساوة الظروف بين بعض البشر حتى وإن كانت في ظاهرها ظروفا لا تستحق إطلاق صفة “القسوة” عليها، لكن أنت فقط ومن يشبهك من يمكنه الإحساس بها، وأنت من يجب عليه أن يكون السباق في مد يد المساعدة إن مررت على نفس المشهد الذي يعيشه أبطال كُثُر.

برد دافئ

مريم اليوسفي

طالبة بالمعهد العالي لعلوم الصحة

‫2 تعليقات

  1. من أجمل ما قرأت غصت في الحكاية لأنني مررت بمثلها مسيرة موفقة لك وشكرا لك على إحياء ماضي الطفولة والشتاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *