“الفيسبوك” حجر الشاهد على موتنا

أ لهذا الحد أصاب الشلل علاقاتنا الاجتماعية ؟

هو الفيسبوك، أضحى حجر الشاهد على الموتى الذين يسقطون تباعا بين تدوينة وأخرى، تلك الصورة السوداء القاتمة التي تحمل عبارة لا إله الا الله، وإنا لله وإنا اليه راجعون، يلتحف بها الجثامين، هي التعاليق المنسوخة والمتواترة ذات القرابة مع الميت أوالقرابة مع كاتب النعي والتعزية، هي التعاليق تتواتر من أجل التعزية والمواساة. “مع خالص التعازي والمواساة”.

أخبار الموت لا تنقطع بسبب الوباء أو بسبب آخر، وواجب التعزية يؤدى على الفيسبوك بتدوينة قارة، تتغير الأسماء ويظل مضمونها واحدا وقارا، يتحول الفيسبوك رويدا رويدا إلى مقبرة افتراضية بتعبير الصحافي البهي جمال بدومة، وتدوينة تشيعوا موتانا إلى مثواها الأخير ويظل الفيسبوك الشاهد علينا والمؤرخ لوفاتنا. ولم تعد المقل تذرف الدموع، صبيب أنترنيت ونقرة على الهاتف وعبارات نعي مسكوكة تعوضها، وتعوض تشجمنا للذهاب للتعزية.

كان الموت رزية وفاجعة تتوقف الأفئدة لسماعه وترتعد الفرائص لهوله، وتذرف الدموع بغزارة لفقد الأحبة، ويتوقف كل شيء إلى حين انتهاء مراسم الدفن وتقديم واجب العزاء… اليوم أول ما يهرول إليه المرء هو إذاعة وبث الخبر على أثير الفيسبوك، وقد يصل الأمر أحيانا الى إرفاق الخبر بصورة لجثمان الميت أو لِلَحدِه؛ وهنا يجب التوقف وطرح سؤال عصي على تفكيك مغاليقه وأسوراه، واقتحام سيكولوجية الذات الإنسانية الفاعلة لهذا السلوك.

صورة تعبيرية

نشر صور على الفيسبوك في حالة تقتضي أن يكون المرء منهارا كليا وفي حالة عجز وشلل في التفكير، فكيف يروج في خلده أن ينشر مثلا خبرا أو صورا في حالة إخباره وسماعه بحالة الوفاة توا، أو يلتقط صورة مع المتوفى وقد لف في كفنه، أو يذهب للمقبرة ويلتقط صورة مع قبر قريبه، كيف لشخص ما، والحالة هذه أن يتذكر أن له هاتفا ويجب أن يلتقط صورة مع جثة ملفوفة في كفن أبيض وإزار أخضر؟ كيف لشخص أن يلتقط صورة مع قريبه في حالة مرض ووهن وهو يذرف الدموع ويقف ليستعد لالتقاط صورة، لينشرها في حائطه الأزرق ويطلب الدعاء من أصدقائه بالشفاء…؟

في الماضي كان الخبر يشاع على نطاق ضيق، وكان تقديم واجب العزاء وتقديم المساعدة حضوريا، فأضحى اليوم افتراضيا ببضع كلمات ومواصلة تصفح وقراءة التدوينات والتعليقات.

أختم بما قاله الصحافي جمال بدومة: “يكفي أن تدخل إلى “فيسبوك” كي تكتشف أنك محظوظ فقط لأنك مازلت على قيد الحياة. “ستأتي” على منشورات تبدأ ب”إنا لله وانا اليه راجعون”، والتعليقات دفتر تعازي. وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مقبرة حقيقية، لدرجة أن الواحد يفكر جديا في مغادرتها، خصوصا إذا كنت ممن لا يحبون زيارة القبور. المشكلة أن كثيرين يجدون لذة في نشر أخبار الموت، حتى لو لم تكن تربطهم بالراحل أية علاقة، بل أحيانا يكون “المرحوم” على قيد الحياة لكنهم يستعجلون دفنه لمجرد أنه دخل المستشفى او اصيب بكورونا، كي يكونوا أول من ينشر الخبر، ويجمعون على جثته “الجيمات” و”الجادوغات” والتعليقات الحزينة. صورة المريض جاهزة مع “يا أيتها النفس المطمئنة”، لا يتركون للأطباء فرصة إسعافه، ولا لأصدقائه وقتا لكي يدعوا له بالشفاء…”.

“الفيسبوك” حجر الشاهد على موتنا

الامراني محمد

باحث جامعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *