نزيف الشباب.. جُرحُ الوطن

حمى الهجرة

تجتاح في الآونة الأخيرة صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا “فيسبوك”، حُمّى من نوع جديد، أو لعلها ليست جديدة ولكنها استفحلت مؤخراً بشكل كبير، فغدوْتَ لا تجد منشورات وصوراً وتعاليقَ إلا عن “الهجرة” وقوارب الانعتاق التي تُقلّ الشباب من شواطئ الجحيم إلی مرافئ النعيم ومن ضيق العيش إلی رغد المعيش.
وَسَطَ أزمات متتالية ومتكالبة عصَفت بالبلاد مؤخرًا ولا زالت، وبين مطرقة الفقر المادي وسندان اليأس المعنوي، وبعدما خيَّم شبح البطالة وقلة اليد لدى شريحة واسعة من الشباب والشابات المغاربة، وكثير من أجناس العرب، سواء من الأطر خريجي الجامعات والمدارس العليا ومؤسسات التكوين المهني، أو ممن لم يُكتب لهم متابعة مشوارهم الدراسي، ينبثق حلم الهجرة كسبيل للخلاص من وطأة ما سبق، وكحَبل نجاةٍ من واقع أثقل الكواهل وأنهك العوائل. 
“الوطن ليس فندقاً نُغادره عندما تسوء الخدمة”.. عبارةٌ شدّت انتباهي في حائط أحد الشخصيات التي أُتابعها على الفيسبوك، فنشرتُها بحائطي لِتَوَافُقِهَا التام مع قناعاتي حول الموضوع، وإذا بوابل من التعاليق تنهال على المنشور كسيْلِ العَرِم، منها المُعارض والمُستهزئ والمُهاجم والمستنكِر، ونزْرٌ من المؤيد؛ مما دفعني للتفكير جديا في معرفة تفاصيل أكثر عما يُخالج تفكير الناس ويشغل خاطرهم ويؤرق مضجعهم، فكان الحل استفتاءًا صغيراً على حائطي الشخصي في ‘فيسبوك’ تضمّن عدة أسئلة بخياريْن، شارك في الإجابة عنها متوسط 86 شخصا لكل سؤال. وجاءتِ النتائج كالآتي: 
1- هل تفكر في الهجرة؟ 72% نعم 
2- هدف الهجرة؟ 78% عمل أو دراسة 
3- العودة للبلاد بعد نهاية الهدف المراد تحقيقه ؟ 57% نعم 
4- الهجرة حتى ولو توفر ذلك الهدف بالبلد الأم؟ 59% نعم 
5- زيارة البلد الأم في المناسبات حتى ولو لم يبق به أحد من العائلة أو المعارف؟ 66% نعم 
6- كيف ستتحدث عن بلدك أمام الأجانب هناك؟ 97% بمنطق الواقع جميلهِ وقبيحِه 
7- لمن ستنحاز خلال مواجهة رياضية أو ثقافية بين بلد إقامتك وبلدك الأصل؟ 89% للبلد الأم 
8- إبراز الهوية الأصلية ببلد المهجر؟ 76% نعم 
9- جلب العائلة للعيش ببلاد المهجر؟! 86% نعم 
10- بلد المهجر هو النعيم والفردوس المفقود بالبلد الأم؟ 61% نعم 
11- الندم على عدم العودة لخدمة الوطن في وقت الحاجة؟ 30% نعم 
12- القبول بالعيش ذليلا في بلد المهجر؟ 29% نعم 
13- عسل بلادي أو قطران البراني؟! 84% قطران البراني (بلد المهجر) 
أرقامٌ متباينة ومختلفة باختلافِ ظروف أصحابها، لكنها تتماشى في نسق شبه موحد، وإنْ كانت بعضها صادمة وبعضُها الآخر مفاجئ. أرقامٌ إنْ دلّت على شيء، فإنما تدُّل على أن الشباب يسعى لتجاوز العراقيل التي وضعتها سياسة دولته أمامه فكبحته وألجمت تحرُّكاته، شباب يطمح لتحسين مستوى عيشه وكذا عيش عائلته الصغيرة التي ما فتئت تُوثِرُهُ على نفسها أعواماً طِوالا منتظِرة اليوم الذي يقف فيه على رجليْه ليبدأ رحلة جديدة، شباب كل أمله شهادة عالية ومنصب جيد يحترم تكوينه ويُنسيه سنوات التعب والكدر.. شباب يتوق لردّ جميلِ أمه وأبيه ولو قيد أُنمُلة لأن جميلهما لا يُرد ولو بجبال من الذهب، ولكن رضاهما سهل إذ يُقنعهما فقط أن يكون ابنهُما بأحسن حال. 
شبابنا لا ينكر جميل وطنه ولا يستنكف عن حبه والتغني به، ولكنه لا يحب دولته (وشتان بين الدولة والوطن)، يكره ناهبيه وخائنيه ويمقت رموز الفساد فيه، شبابنا ماكان ليفكرَ في الهجرة أبداً لوْ أن ببلده أبسط ظروف العيش الكريمة التي تصُون كرامته وكرامة أسرته، ما كان ليَركب أمواج البحر والمحيط نحو المجهول لو أنه يعلم تماما أن بأرضه ما يستحق البقاء، ماكان لِيَسُبَّ دولته ولا أن يتجرد من جنسيته ويُمجد دولة غيره. 
شبابنا، حسب إجاباته، يحب وطنه ولا يسعى لمغادرته غالبا سوى لغرض العمل أو الدراسة، وتنوي شريحة كبيرة بعدهما العودة له، وقبل ذلك سيزوره في كل مناسبة ممكنة بل وسيسعى لإبراز هويته ومجده متى ما أمكن ذلك وسيشجع فريقه الوطني في نِزاله مع فريق بلد إقامته؛ شبابنا يئِس المذلة هنا فانبرى مُرغَمًا للبحث عن سبيل الخلاص ببلدان حازَتْ قصبَ السبق في تبجيل إنسانية مواطنيها واحترام حقوقها ومتطلباتها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته خيرُ أسوة حين اشتد الكدر وأرخى الظلم والاستبداد سُدُوله فانطلقوا لأرض لا يُظلم فيها عبد ولا حُر، وبعدها نحو أرض تقاسم أهلها كسرة الخبز مع ضيوفهم تكريما لهم. 
قال الشافعي رحمه الله : 
 ارْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا ***وَلاَ تَكُنْ مِنْ فِرَاقِ الأَهْلِ فِي حُرَقِ 
 فالعنبرُ الخامُ روثٌ في مواطنهِ*** وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُنُقِ 
 والكحلُ نوعٌ منَ الأحجارِ تنظرهُ*** فِي أرضِهِ وَهْوَ مَرْمِيٌّ عَلَى الطُّرُقِ 
 لمَّا تغرَّبَ حازَ الفضلَ أجمعَهُ***  فَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْحَدَقِ 
ولاية الأمور ليست، فقط، مناصباً تُتَقلَّد أو اجتماعاتٍ تُعقد، بل تتجسد في الأفعال والتحركات والواجبات المفروضة والأمانات المُعلّقة، تتجسد في إيجاد حلول ناجعة تتماشى والواقع المرير لمشاكل تكاثرت واستفحلت كأسلاك متشابكة في كبة صوف، بيد أن واقعنا الحالي يتنافى وكل ما قيل تماما في نقض صارخ للأعراف والأصول والقوانين التي يأتي الفصل العشرون من دستور المملكة المغربية في مقدمتها والذي ينص على أن ” الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق.” 
“لو ما أخرجوني منكِ ما خرجت”، بهذه العبارة ودَّع الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ليلة الهجرة لشدة حبه لها وحزنه الكظيم لفراقها، لكنه خرج رغم ذلك ولم ينسها أو ينكر حبه لها قط، وسعى جاهدا لإخراج أهلها من دياجِر الشرك لصفوة التوحيد، وذاك ما يتطلبه الوطن (لا الدولة) من شبيبتنا المهاجرة: غيْرةٌ عليه في النفوس وحبّ في القلب مغروس ودعاء بالصلاح لكل أمر عموس.
 

حمزة بوهلال

مدون وعضو فريق زوايا

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *