فن النهايات

أدَّى الفنان الإسباني “خوسي لويس فيجيريو” مُغني الفرقة الموسيقية الفلامنكية المشهورة “ELBARRIO“، أغنية “Todo tiene su fin” (كل شيء له نهاية) أداءًا رائعاً. 
والمُلفت فيما قدَّمه؛ هو أنه طَرِبَ جُرح الفراق بإحساسٍ مُبهجٍ فيه الكثير من الرضا والاستغناء، استطاع أن يُترجم كلماتها التي تَتحدث عن شِقاق الأحبة ترجمةً صائِبةً، فيها إبداعٌ صادِق وانتصار كبير على مشاعر الأسىى والحزن المُرتبطة بالنهايات. فلطالما تَرَسَّختْ لدينا فكرةُ أن النهايات أمرٌ غيرُ مرغوب فيه، واقترنت ثقافةُ الانفصال بالبكاء والتَذمُّر والشتم للأسف، إلاَّ أن أداءَه بهذه الطريقة أثبتَ العكس، جَمَّل النهايات في أَعْيُنِنا على كونها لا تُعاشُ إجباراً وإنما خياراً نريده؛ ولعل هذا راجعٌ إلى اقتناعه أن الحياة هي مُفترق الطرق، لِذا من الأحرى أن نفترقَ بحُبٍّ يُشبه ذلك الذي جَمعنا أول مرة. 
مُلْهِمَةٌ هي تلك النهايات، لن أقول عنها السعيدة، وإنما البنَّاءة؛ تلك التي يسُودها الرقي في الكلام والاحترام في التصرف. سَلامي، إذن، إلى شُركاء فَضُّوا تجارتهم بتَراضٍ ووِفاقٍ، سلامِي إلى زوجيْن فضَّلا أبغضَ الحلال إلى الله دون أي تجريح، سلامِي إلى صديقيْن لم يَعُدْ صَفْوُ الودّ بينهما طبيعةً، فَرَحَّبَا بالانسحاب، سلامِي لحَبيبيْن لم يَجمعْهُما سقفٌ واحد ولكنهما بَقِـيَا على عهد واحد.. لنَتَوادَعْ بعَفْو! حتى في الموت، تلك النهاية الكبرى وذلك الفِراق الأعظم، حرَّم دينُنا النَدْبَ دعوةً لنا كيْ نَدَعَ الميت يَرقدُ في الدار الأخرى بسَلامٍ. 
البداية والنهاية هُما تَوْأمَا الحياة، إلَّا أننا للأسف نَنْحَازُ للمولود الأول، نُتقن الخطوة الأولى، نَمنحُها كل تركيزنا ونُبالغ بالاهتمام بها. وفي المقابل، نُهمل النهاية في حين أنها عَصَبُ الحكاية. 
نَنْسى أن المغزى هو ترك أثر جميل، وأن تكُون آخر كلماتنا “دُمتم بخير”، أن نُقفل الباب بأدب، ونَنْصرف بهدوءٍ، تاركين وراءنا نسماتٍ عطِرة وذكرى حُلوة. 
هذه هي النهايات البنَّاءة والسعيدة؛ لأنه أينما حلَّ العَمارُ حلَّتِ السعادة. علينا أن نَعلم أن النهايات صُنع أيدينا، مِرآة أخلاقنا وفلسفتُنا في الحياة. 
إن النهايات التي فيها إدمان للحزن والندم وجلد الذات، هي نهاية هدَّامة تجُرّ على صاحبها الضرر؛ فعلى سبيل المثال، تستفزُني مثل هذه العبارات “صَفقْ بحرارة لمنْ علَّمك القسوة، ثم اصْفعْهُ لكيْ يَعلم أنك تعلمْت”.. لا أدري ما الذي تستفيده من صفع الشخص الآخر، وإن كان مصدر أذيّة لك؟! في تلك الصفعة أعمقُ مراتب الضعف، فيها نُكران و تشويه للعِشرة الجميلة وتشويه لكل جميل بك. 
مثل هذه النهايات الصادِمة تَكشِفُ حقيقة البدايات المُزيفة.. فنهاية أي مِشوار هي حَصاد ما زُرع منذ البداية.. وأظُن أن مَن يُحسن ختام علاقاته الاجتماعية، سَتَحْسُنُ، بإذن الله، خاتمته مع رب السماوات والأرض. 
هي نهايات صغيرة تُدرّبنا على ما هو أعظم. علينا أن نَكُون شَغُوفين بالنهايات، وأن تكُون عُدَّتُنا التسامح والتغاضي والعفو. 
النهايات البنَّاءة فكرةٌ جيِّدةٌ، والأفكار الجيدة لا تمُوت. لذلك قَررتُ التالي؛ كلما شاءَتِ الأقدارُ أن أُلقي سلامِي الأخير على أحد ما، سأكون حريصة أن يُصاغ بموَدَّة وأدب. النهاية فنّ، لذا سَأَسْتَجْمِعُ قِواي، وأُردد، مع الفرقة الفلامينكية، بصوتٍ مِلؤه فرحٌ وحُبٌّ وسعادة: 
  أحس أن الساعة قد حانت 
  وفي ظرف لحظة 
  ستبتعدُ حتى النهاية 
  كل شيء عندي متساوٍ ولا شيء يهم 
  كل شيء له نهاية ..
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *