لم أجد عنوانا

هلوسات مكتئبة

أنهض من سريري بعد ليلة مظلمة كالعادة وأجول بعيني في أرجاء الغرفة السوداء فلا أجد فيها طعم الحياة؛ أشياء مبعثرة هنا وهناك دون ترك أي فراغ كي لا يذكرني بالفراغ الموجود بحياتي.

كرسي مرآتي التي شهدت كل الأحداث بعد ليلة تصارعت فيها أنا والنوم حيث حسبت عدد الشقوق في الجدار وتبعت تموجات الزركشات والنقوش الموجودة بغطاء سريري الملون؛ لم أنتبه يوما إلى ألوانه البهيجة فلا أرى منها إلا الأسود والأبيض وقليلا من الرمادي. أنهض ثانية بعد أن رميت الغطاء بشكل مهمل كأنني نسيت أنه الذي مسح دموعي الجافة أمس بعد ليلة بيضاء أو ربما سوداء بعد كل تلك الأفكار السوداوية التي تحطمني، التي تأكل من عقلي وتقتات من شبابي. أي شباب وأنا العجوز بعمر السابعة عشر ربيعا؟

أقف أمام المرآة وأنظر إلى هذه الملامح، نعم إنها أنا، عينان ذابلاتان، جفون سوداء ووجه شاحب بشعر مبعثر. بعدما أصبحت الحياة أقسى من السيف، أبقى أنا والجدران فقط نتراهن على من ينهار أولا. كم هي صعبة هذه الحياة حينما تنهار كفتها فتصبح بدون كفة وبدون معنى.

أفتح النافذة فأنظر إلى كل هؤلاء الناس السعداء، لا بل إنهم تافهون لم يفهموا معنى هذه الحياة، لم يفهموا كل تلك الأشياء وكل تلك التفاصيل التي تجذبني لكي أفكر وأفكر حتى يصيبني الصداع. هل جربت التفكير في اللاشيء وكل شيء؟ هذا مايحدث لي كل ثانية.

المهم الآن أن أصواتا جذبتني فنظرت إلى الزاوية الأخرى من الشارع فرأيت أطفالا يلعبون فأتذكر أن الحياة سلبت مني الطفولة والشباب، فأغلق النافذة لأتحرر من هذا الضجيج وهذه الأفكار. نظرت ثانية إلى المرآة لعل أفكاري تنعكس عليها فلم أجد سوة ملامح باردة لا توحي بأي شيء، لا تظهر كمية الصخب الموجودة بعقلي والأفكار المتضاربة التي تتصارع من الأقوى؛ فالكل يريد السيطرة. جلست على حافة السرير ثانية وثبتت مقلتاي على زاوية معينة كي يبدأ ضجيج أفكاري ثانية، بعقلي أفكار أحداث ومواقف شتى أضع يدي على أذني لعلي أنعم ببعض الصمت…. ولكن لا توجد طريقة للهرب من التفكير.

صورة تعبيرية

أهدأ ثانية وأقرر ألا أبوح بمشاعري لأحد كي لا يستهزئ بأي شيء أصفه فأنا حقا لا أدري بم أشعر…
قاطع أفكاري الطرق على الباب، إنها أمي. ارتديت ثانية قناع السعادة ولبيت طلبها في الإسراع للإفطار. جلست بعد أن ألقيت التحية وشرعت في الأكل وكالعادة لا مذاق له.. ليس لأن أمي لا تعرف الطهو فالكل يشهد لها بأن يديها يدا طاه ماهر لكن أنا التي فقدت حواسي الخمس.

أنهض بعد لقيمات قليلة وأنا أسمع شكاوى أمي لأبي بأنني أصبحت نحيفة جدا وبأن شهيتي أصبحت قليلة.. أتجاهل كل هذه التراهات وأغلق باب غرفتي جيدا؛ تقودني قدماي إلى مسجل الصوت لكي أستمع إلى الموسيقى، شغلت أغنية فلم أشعر بشيء؛ غيرتها… لا شعور… غيرتها وغيرتها مرارا وتكرارا لكنني لم أشعر بشيء البتة… لم تعد تطربني حتى الموسيقى، فلماذا يقولون إذن أن الموسيقى غذاء الروح؟

أترك المسجل اللعين وأتوجه إلى المكتب، أمسك بالقلم لعلي أكتب شيئا أفرغ به ما بداخلي؛ أكتب وأكتب، أقرأ ماكتبت فأتعجب وأضحك مقهقهة، هل أنا التي كتبت هذا؟ هل عشت كل هذه الأشياء اللعينة؟ أمسك كتابا فأجد أنني لا أقرأ سوى أفكاري اللعينة. أحاول الهروب -لأنني مشمئزة من هذا العالم- في أغنية، في كتاب أو ربما في فيلم، لكن الواقع يصفعني بأنني لا زلت في مكاني وخشاشتي التي قرب موعد اندثارها وتطلب آخر الأنفاس، أنا أيضا لم أرد أن أكون آلة موسيقية يعزف عليها اليائسون من الحياة لكي يسطروا لحنا يعجبهم. أﻧﺎ ﺃﻓﻜﺮ، ﺃﻓﻜﺮ ﻛﺜﻴﺮا ﻓﻲ ﺍأ‌ﻳﺎﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻀﺖ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﻲ، ﺃﻓﻜﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﺃﻓﻜﺮ ﺣﺘﻲ ﻳﺘﻤﻠﻚ ﺍﻟﺼﺪﺍﻉ ﻣﻦ ﺭﺃﺳﻲ حد الصراخ ﺃﺣﻴﺎﻧا، أبكي بلا سبب كأن الحياة اتفقت مع الحزن على معانقتي كأسَ الصمت والهدوء القاتل، أحتسيه بحرقة حادة.

آه، إنني مصابة بلعنة اسمها الاكتئاب

لم أجد عنوانا

فتيحة المتوكي

طالبة سنة ثانية في كلية العلوم والتقنيات المحمدية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *