ستيفان زفايغ : عندما يعيد الأدب اكتشاف خبايا النفس البشرية

كان صباحا برازيليا عاديا، يوم 22 فبراير 1942، عندما طرق الخدم
باب غرفة نوم سيدهم، وقد اعتراهم القلق بعد تأخره عن موعد استيقاظه المعتاد، ما
اضطرهم لاقتحام الغرفة والاصطدام بمشهد عناق السيد وزوجته
.


لم يكن عناقا عاديا

كان عناقا أبديا هادئا بعد انتحارهما معا، حزنا على ما اعتبراه
انهيارا لأسس السلم العالمي وتوالي بش
اعات الحرب العالمية الثانية
كما كتب السيد في رسالة وداعه للعالم، ليتساءل الخدم ومعهم كل أصدقاء ومعارف السيد
:
هل كان هذا
الانتحار جنونا أم شجاعة أم حساسية مفرطة ؟

يتعلق الأمر هنا
بالكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، الذي ولد سنة 1881، وعاش في كنف أسرة يهودية
بورجوازية، خاضعا لتعليم صارم وتربية ملتزمة، ليحصل على الباكالوريا سنة 1900
ويتخصص في الفلسفة وتاريخ الأدب، ومع انتقاله إلى برلين تعرف على روايات عبقري
الأدب الروسي فيودور دوستويفسكي، ليبدأ شيئا فشيئا تعلقه بالأدب، وإن عانى من نقص
في الثقة في موهبته خلال سنوات شبابه الأولى
.
اضطر زفايغ
لمغادرة بلاده عام 1934 هو وعدد كبير من يهود النمسا بعد تصاعد حدة المضايقات
النازية التي أدت –كما هو معلوم- إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939
.
حصل زفايغ على
الجنسية البريطانية بعد استقراره بلندن حيث واصل عمله ككاتب ومحلل للسير الذاتية
لأشهر الأدباء والمفكرين العالميين كهونوري دو بلزاك وفيودور دوستويفسكي وليو
تولستوي وغيرهم، وتمتع بعلاقات صداقة قوية مع ريتشارد شتراوس ورومان رولاند
وغيرهما، لكنه عمل بالموازاة مع ذلك على تأليف عدد من الروايات القصيرة “نوفيلا”
التي تركت أثرها العميق في الأدب العالمي إلى يومنا هذا، وظهر فيها أيضا تأثره بمن
قرأ لهم (دوستويفسكي ونيتشه) ومن عرفهم (سيغموند فرويد
).
بطبيعة الحال، لا
يتسع المجال هنا لتحليل كل رواية على حدة، فهذا يتطلب ملفا شاملا وموسعا، لكننا
سنكتفي بإلقاء نظرة سريعة على أبرز روايات زفايغ، بما يشجع القارئ على اكتشافها
بنفسه
:
24
ساعة من حياة امرأة : سيدة أربعينية محترمة تجد نفسها في علاقة
غريبة مع مقامر شاب، تتنازعها مشاعر الحب الشهواني والعطف الأمومي التواق للمساعدة
والمستعد للتضحية، مقابل لا مبالاة واضحة من الشاب. وهنا أبدع زفايغ في تسليط
الضوء على جوانب مظلمة من النفس البشرية التي قد تعترف بأي شيء، إلا المنطق
!
لاعب الشطرنج :
قد تكون أشهر أعمال زفايغ لعدة أسباب، من بينها نشر العمل سنة 1941، كآخر إصدارات
زفايغ، سنة واحدة قبل انتحاره، وقال عنها في رسالته الشهيرة لصديقه هرمان كيستن :
“ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي، كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضّل
البائس، وهي أطول من أن تُنشر في صحيفة أو مجلة، وأقصر من أن يضمّها كتاب، وأشد
غموضا من أن يفهمها جمهور القراء العريض، وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته”.
هي رواية تعرية الإنسان، وحشره في زاوية المواجهة بين العقل والقلب، الحلم
والواقع، وإن اقتصرت المواجهة في شكلها الروائي الرمزي على رقعة شطرنج صغيرة
!
التباس الأحاسيس
: يقتحم زفايغ في هذه الرواية جانبا ظل إلى حد ما بعيدا عن التناول الأدبي (أو
قريبا بنوع من التحفظ) في تلك الفترة خلال مطلع القرن العشرين، علاقة طالب متحمس
بأستاذه غريب الأطوار، تتصاعد وتيرة الأحداث ومعها عذاب الطالب العاجز عن فهم سر
تقلبات أستاذه، قبل أن تصل إلى ذروتها مع مفاجأة غير متوقعة إلى حد كبير
.
سر حارق : نحن
هنا أمام علاقة ثلاثية ملتبسة، سيدة أرستقراطية تقضي عطلتها في مكان هادئ رفقة
ابنها الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، يحاول بارون ثري إغواء الأم مستخدما
الطفل الصغير كوسيلة، لكن الأمور لم تكن بتلك السهولة التي توقعها. انتقل زفايغ في
هذه الرواية إلى مستوى أصعب، هو تحليل نفسية الطفل العالم بوجود شيء غير طبيعي بين
والدته والبارون، والعاجز في الوقت نفسه عن فهمه
!
الخوف : تعالج
هذه الرواية ذلك الأثر الذي يمكن أن يحدثه الابتزاز بشقيه العاطفي والمادي على
حياة المرأة، بما قد يدفعها إلى وضع حد لحياتها، سيدة محترمة أخرى تتمتع بكل مباهج
الحياة، لكن الملل سيدفعها للدخول في علاقة محرمة مع شاب عابث، بعيدا عن أعين
زوجها المحامي المرموق، فكان للصدفة (أو القدر ؟) رأي آخر
!
يتبين لنا هنا أن
زفايغ قد نجح إلى حد بعيد في إطلاعنا على بعض جوانب الغموض في النفس البشرية، من
خلال نماذج مختلفة ومتنوعة، ولكنني أعتقد بأن هذا سيدفعنا دفعا إلى طرح سؤال منطقي
ومشروع
:
لماذا لم يجد هو
ذلك السلام النفسي الذي بحث عنه طويلا، ودفعه إلى مغادرة وطنه النمسا والاستقرار
بانجلترا وبعدها البرازيل، مع رحلات متقطعة ومتعددة إلى الولايات المتحدة
الأمريكية، قبل إنهاء عذابه الطويل هذا بالإقدام على الانتحار ؟

سؤال قد يبقى
هكذا بلا إجابة، ما دمنا عاجزين عن فك أغلب رموز وأسرار النفس البشرية، رغم كل ما
بلغه العلم من مستويات متقدمة ورغم كل ما كتبه الأدب عنها
!

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *