“أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة”

لنُدخل البهجة على قلوبهم

كانت أول زيارة لي لهم، زرتُهم لحضور حفل في منزلهم، سأسمّيه منزلهم لأنهم لا يملكون سقفا آخرَ غيره، متفاوتةٌ أعمارُهم بين مَن هم في المهد، وآخرون على مشارف سن الرشد، كلهم سعادة وحماس، وكأنهم يشتاقون لمن يزورهم، ويأنس وحشتهم. طلباتهم بسيطة وصغيرة مِثلهم، قبِّلْني، احضني، الْعبْ معي، خذني معك. هُم أطفال المَيْتم..

جمَعُهم القدر تحت سقف واحد، ميتم يعوّض ولو قليلا فراقَ مَن كانت ستكون الجنة تحت قدميْها، منهم اليتيم، ومنهم من يَتّمته الحياة رغمًا عنه. خلال الحفل، طلبت من مربية هناك أن ترافقني لأزور الأطفال الذين لا زالوا رُضّعًا، وأنا أتأملهم من سرير لآخر استوقفني أحد الصغار، تذكرت ملامحه وحتى اسمه، وأتذكر حتى ملامحها هي… التي تركته هنا.

امرأة لم يرُقْني طبعُها رغم أنني لا أعرفها ولن أتشرف بمعرفتها، بيَدِها طفل حديث الولادة، فتحت لها الباب، ألقت التحية وبادلتُها إياها، صمتت كثيرا، ثم قطعت صمتها بوابل من الأسئلة، لن ينفعكم ذكرها بشيء، وأهم جواب لها كان، أريد أن أتخلى عنه، عن من؟؟ عن طفلك هذا؟ قالت نعم!

طلبتُ منها أن أضعه في حضني قليلا فأعطتني إياه، أزحت الغطاء عن وجهه، فإذا بي أرى وجها صغيرا بحجم كفّي يُشع نوراً، اسمه زياد وعُمره شهر، هكذا أنعت شرودي فيه، سقطت الدموع من مقلتي، ونظرت إليها باستغراب فوجدتُ عيناها جافتيْن تماما، ما هذا القلب الذي تملكه، جاءت وكلها شجاعة وقوة مصممة على أن تتخلى عن طفل كان نتيجة “قصة ممنوعة” حَرَّمَها الدين والمجتمع، قصة أبطالُها امرأةٌ مطلقة ورجل متزوج، وها هي الآن ترمي ثمرة اللحظة المحرمة في كنف “خَيْرية” وتعود لطفلها الذي أنجبته من علاقة حلّلها الله ولم يُكتب لها أن تستمر، وانتهت بأبغض الحلال عنده.

هل تودون أن أصدمكم قليلا كما صُدِمت أنا، حسنا سأخبركم كي لا تحبوها كما لم أحبها أنا، رافقتها إلى من سَيُسَوّي وضعيتها، فرحتُ كثيرا بالحل الذي أوجدوه لها، فلقد اقترحوا عليها أن تأتي هي ورضيعها وطفلها الآخر إلى دار الإيواء وتربي ولديْها هناك وتبحث عن عمل كي تقف على رجليها وتعيل نفسها وطفليها في قادم الأيام. لكن وقاحتها لم تسمح لها بقبول هذا الحل، هي عازمة على التخلي عنه وليس هناك ما يُغيّر رأيها أو يحرك ضميرها.

تركتْ فلذة كبدها خوفا من أصابع المجتمع، ولم تخف من خالقها ماذا ستقول له يوم تلقاه، أما “صاحب الفِعلة” فقد غيَّر رقم الهاتف يوم ثبوت الحمل، خوفا من زوجته المصونة داخل البيت، وخوفا على سُمعته العطرة بين من يعرفونه. كنت أنتظر فقط بضع دمعات من عينيها كي توقظني من دهشتي، لكنها لم تُحقق لي ذلك.

دعنا لا نتذكرها فهي لا تستحق ذلك ولنعد إلا حفلنا وأطفالنا، حفل حضره نخبة المدينة، لا أظن أنهم حضروا حبًّا في هؤلاء الأطفال، ربما ما جعلهم يلبون الدعوة هو إظهار جانبهم الخيري التطوعي، لأنهم لم يقربوا الأطفال ولم يكلموهم حتى، على العموم مشكورين على مجيئهم، لأنهم على الأقل تبرعوا ببعض الدراهم لضمان جزء بسيط من احتياجات هؤلاء المساكين، وذلك واجبهم تجاههم، إن لم نُعِلْهُم ونساعدهم نحن من سيكون مُعيلهم !

لعبتُ ومرحت معهم حتى تعبت لكنهم لم يتعبوا، ربما ما يتعبهم هي الوحدة والسكون الذي يعم المكان في الأيام العادية. انتهى الحفل وانتهت لحظاتنا معهم، وأتى وقت الرحيل، ضيق أصاب قلبي حينها، ربما هو نفس شعورهم، فقد لاحظت الحزن على وجوههم البريئة… سأفتقدهم رغم أنني عرفتُهم للتوّ.

إحدى الصغيرات احتضنتني بقوة وطلبت مني أن أزورها مرة أخرى ووعدتُها بذلك… لم أزرها حتى الآن لكنني سأزورها بمجرد ما أن تسمح لي الفرصة. ما رأيكم أن نزورهم جميعا، هل في جعبتكم متسع من الوقت، إذا كان لديكم فجيد، وإذا لم يكن فجدوه، وخصِّصُوه لهم وسيرى الله لكم ذلك يوم لن ينفعكم إلا عمل صالح قدمتموه لوجهه الكريم.

كُفّوا عن إظهار مثاليَتِكم فقط في المواقع الإلكترونية، أظهروا مثاليتكم الواقعية، حب الخير والتعاون والتآزر، طبِّقوه في الواقع.
وقتنا وأموالنا سنحاسب عليهم يوم الحشر، تخيَّلوا عظمة أن نُجزى لأننا خصصنا بعضهم لهؤلاء الأيتام، إن العين لتدمع فرحا من جزاءٍ كهذا.
اجْبِروا قلوبهم كي يَجبُر الله قلوبكم. وأبشروا حينها بصحبةِ خيرِ مَنْ وَطِئَ الثرى في الجَنّة.

جهاد موسى

“أنا وكافل اليتيم كهاتَيْن في الجنة”

تقرؤون أيضاً على مدونة زوايا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *