حلم بعيد

الحلم، هو ذلك النجم المضيء الذي يلوح عاليا في الأفق نبراسًا نرجو منه أن يأتي على أيامنا السخيمة فيُحَوّلها قناديل مستعرة كمعجزة تحُلُّ رِبقة عبدٍ ضعيف. ونحن نتسلق أولى دفاتر الحياة، ذاتَ طفولةٍ كنا غارقين فيها في دَنٍّ من الفرح والسعادة.

سئلنا مرات عديدة عن أحلامنا، أحلام الصِّبا والشباب والكهولة، وكانت أجوبتنا بريئة تضم تفاؤلًا وتفيض غبطة، كان معظماً يسترسل في السرد عن مستقبلٍ يكون فيه طبيباً يدثر وزرة بيضاء ويحمِل مِشرَطاً، أو مدرِّسًا يغوص في جبّة الظلمات حتى يُبلّغها نور العلم، أو شُرْطياً يساند الضحية بيَمينِه ويُوقِفَ الجاني بشماله.. وكُنا بخَيالاتنا الواسعة نجوب رُبوع جزر الأحلام ممتطين صهوة جوادنا الطائر، نقفز من أرض لأخرى. و كلما تقدمنا في سلم العمر كلما بخست أحلامنا أو عظمت، كأن يحلم بعضنا بسيارة فارهة أو سفر إلى بلاد بعيدة أو منزل يطرق نسيمُ أمواجِ البحار شرفاتِه، أو أن تحلم إحداهن بزوج وسيم يخلصها مِن ربقة العزوبية أو أخرى تتمنى أن تحبل وتلد رضيعا يحمل جيناتها…

أحلام البعض قد تبدو في نظر البعض سخيفة و أحلام أخرى قد تبدو مثيرة للسخرية أو حتى مستحيلة، هي نظرات مختلفة لأحلام معقولة مهما بدت في نظرهم شاذة أو قاصرة أو متطرفة.
الناشزُ في سمفونية الحلم هي ترانيم تصدح بها صدور طفولية تئن أملا في سُلّم ينتشلها من قعر سحيق، طفولة تتخبط في وحل الفاقة والفقر، عدنان يتيم الأبوين، لا يربو عن السابعة إلا قليلا، يتوسَّد الرصيف و يفترش خردة أوراق، يتدثَّر اليتم والخيبة و الحاجة.. يحلم بحضن دافئ ووَسطٍ عائلي وأكل يسد رمقه و يغذي جسمه النحيل بما يحتاجه من فيتامينات ودهنيات وسكريات… هو الذي قد لا يقتات طيلة يومين إلا على بقايا أكل مطعم أو فندق إن وجدت، ثيابه الرثة المتسخة المزدانة بالرقع تؤكد شراسة معاركه اليومية على هذه الأرض، لم تكن أحلام عدنان كبيرة ولا باهضة كان يحلم بمقعد في فصل دراسي مثلا بين أترابه يغني

 " أرسم ماما أرسم بابا بالألوان  ***  أرسم علمي فوق القمم أنا فنان"

بودّه أن يرسم أمه وأبيه بفرشاة، أن يكون فنانا يخضب بياض الورق ويجعلهما في كبد الصورة ويحاورهما حاكيًا ما فعله به الزمان وكيف غضَر به زورق الأيام ورماه في أعالي البحار دون سترة ولا مِجداف..

بين عشيّة وضحاها، وجَد نفسه وحيداً يكابد العذاب بكل صنوفه، يجترّ مرارة الأقدار وسخرية الأيام، يرتطم بأسياخ من حديد كلما فرّ راكضا هاربا منها التقى بالمزيد منها، يسير تائها وقد أدمى المشي كاحِلَيْه.. عدنان مجرد مثال لشريحة واسعة من أطفال يعيشون الواقع ذاته أو أمر.

هي حقوقٌ إذن، تآمرَ عليها الزمان ونالت منها الحياة حتى شوَّهتها أيَّما تشويه وارتقت بها إلى درجة حلم صعب المنال، قد يلتوي الموت على صاحبها قبل أن يغدو واقعاً معيشاً يعانقه ويرقص على حلبته. فلتختفي من عوالمنا أيتها الأحلام الضائعة!

خولة الفلاحي

حلم بعيد

خولة الفلاحي

يستهويني الحرف ويجذبني القلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *