“شعر محمد الماغوط”..

بين التمرد و اغتصاب كان وأخواتها!

سامحُونا ..

إن رفَضْنَا كلَّ شيءٍ ..

وكسَرْنَا كلَّ شيءٍ ..

واقْتَلَعْنَا كلَّ شيءٍ

ورمينا لكُمُ أسماءَنا

سامحُونا ..

إن بَصَقنَا فوق عصرٍ ما له تسميةٌ سامحونا إن كَفَرنَا …

هكذا وصف نزار قباني ذاك “التمرد الشعري” الذي حمل مشعله شعراء جيله الذين سموا ب“شعراء الحداثة”، وقد سار محمد الماغوط بهذا “التمرد” الى أقصى مداه، ووصل به الى نقطة اللارجوع، حيث جعل من مشاعره الصادقة وروحه الثائرة، عنوانا لقصائده الرافضة للواقع السياسي والإجتماعي، النافرة من هذا العالم اللامعقول، فكان ذلك محركا لحبره، معبرا أصدق تعبير عن مشاعره ومواقفه تجاه كل ذلك، وقد كانت تلك المشاعر والأحاسيس من الإتساع اكبر من ان يستوعبها النسق او الشكل او البنية التي بني على أساسها الشعر العربي القديم، فكان ان ابتدع لنفسه نمطا جديدا في التعبير وهو ما سيعرف ب “الشعر-النثري”، متجاوزا بذلك التقسيم او التمييز الذي كان يقيمه القدماء في الأدب بين: شعره و نثره.

ليس هذا فحسب بل لقد تعدى الشاعر كل ذلك بخرقه لنظام اللغة العربية وضوابطها، فنجده يرتكب أخطاء نحوية او لغوية في غير ما موضع، وربما كان يتعمدها، وعندما أصر أحد أساتذة اللغة العربية في عصره تنبيهه قائلا:”كيف لك أن تمرر مثل هذه الأخطاء للقارىء؟” أجابه جوابا لا يخلو من طرافة قائلا: “في وطننا العربي يسمح للمرء أن يمرر كل أنواع الفساد، لكن أن تمرر له خطأ لغوي، فهذا ما لن يسمح به ابدا”

لقد رفض محمد الماغوط رفضا قاطعا تدجين الشعر، فتركه حرا طليقا. وهذا التوق الجامح للحرية نجده يتكرر في قصائده. وكما هو معلوم فإن التوق لشيء ما، معناه ان ذاك الشيء مفقود، فيتحول حينذاك التوق الى رغبة لاشعورية، رغبة غير مشبعة فتحاول هذه الرغبة الهروب من الواقع لتعيش حياة أخرى على شكل حلم، وذلك عندما تنفلت من رقابة الأنا الأعلى، وهنا نجد شاعرنا يقول:

حلمت ذات ليلة بالربيع

وعندما استيقظت

كانت الزهور تغطي وسادتي

وحلمت مرة بالبحر

وفي الصباح

كان فراشي مليئًا بالأصداف وزعانف السمك

ولكن عندما حلمت بالحُرية

كانت الحراب

تطوق عنقي كهالة المصباح.

وهو ما يعبر عنه ايضا في موضع آخر بقوله:

آه يا أمي

لو كانت الحُرية ثلجًا

لنمت طوال حياتي بلا غطاء

“آه” انها تنهيدة تند عن توق الشاعر لهذه الحرية المفقودة التي يبحث عنها في “خرائط اوروبا” كما يقول. لكنه بحث حالم يشبه بحث “دون كيشوت” عن البطولة والمجد وهو يقاتل الطواحين ويحارب الهواء:

لم تعد لي غاية أسعي اليها

كل شوارع أوروبا

تسكعتها في فراشي

أجمل نساء التاريخ

ضاجعتهن وانا ساهم في زوايا المقهى..

لم يشبه الماغوط أحدا، فقد كان شاعر التشرد والتسكع والصعلكة، لا شاعر قصور، فكان موقفه موقفا احتجاجيا، ثائرا، ورافضا لهذا الكم الهائل من اللامعقول، والذي تجسد في كل هذه الآلام البشرية، وهذا بالضبط ما جعل منه شاعرا متوحدا ومتفردا، لكن هذه الوحدة وهذا التفرد جعلاه يستشعر نوعا من الضياع:

أنا لست ضائعا فحسب

حتى لو هويت عن اريكتي في المقهى

لن أصل الى سطح الأرض بآلاف السنين

وقد دفعه ضياعه هذا الى “التيه” فجعله يبحث عن أي شيء يتمسك به او يتكىء عليه حتى لو كان لامعقولا:

لقد اشتقت للظلم للإرهاب

للتعلق بالأغصان بالشاحنات

للتمسك بأي شيء

ولو بقضبان السجون

ويقول أيضا:

لنفعل اي شيء غير معقول

حتى بيكيت اصبح عاديا وكلاسيكيا في هذه الأيام

اذا لننتحر!

يبدوا هذا الضياع شبيها بذلك القلق الوجودي، الذي يفقد خلاله الإنسان الإيمان بكل شيء، حتى لا يعود هناك ما يسترشد به او يتمسك به، فيصير الإنسان “مهملا” بتعبير هايدغر، فيغوص في غثيانه، ويخبط خبط عشواء، وهذا الشعور نلمسه واضحا في هذه الأبيات:

لن أكون ضجِراً هناك / وأنا أختالُ كالطاووس في غرف الفحم الملتهب/ حيث يتصبب عرقي على الحقائب وغدائر المسافرات/ حاملاً أطفالهن على مداخل الجزر/ ضاغطاً أثداءهن الصغيرة بكتفي وظهري/ رافعاً دفاتري القروية كالسيف البرّاق في وجه العالم أجمع / وفي الليل / عندماتظلم الأمواجُ كالقبور / وتسيل دماء الأسرى تحت الأشرعة الغاربه /سأقف على موجةٍ عاليه/ كما يقف القائد على شرفته / وأصرخُ ، أنني وحيدٌ يا إلهي.

إن صيحت الشاعر هذه تذكرنا بصيحت السيد المسيح “إلهي.. إلهي.. لماذا تخليت عني؟” ثم أوليس هو نفسه الشاعر القائل “أنا نبي لاينقصني غير اللحية والعكاز والصحراء”؟

ويجب أن لا نفهم من هذه الوحدة او هذا الضياع على أنهما سجنا إجباريا وُضع فيهما الشاعر، بل هما اختيارا حرا ومحببا لديه فيقول مثلا:

ايها المارة

اخلوا الشوارع من العذارى والنساء المحجبات

سأخرج من بيتي عاريا واعود الى غابتي

ويقول ايضا:

اما انا سأبحثُ عن مسبحةٍ وكرسيٍ عتيقٍ لأعودَ كما كنتُ حاجباً قديماً على بابِ الحزنْ

ويقول:

سأغوص باتجاه الجزر والأدغال

اما في قصيدته المسافر فهو يصف حياته بأنها “سواد وعبودية وانتظار” وهذا يجب ان لا يحملنا على الإعتقاد بأن شاعرنا كان انهزاميا كيف و هو القائل أنه:

مامن قوة في العالم

ترغمني على محبة، ما لا احب

وكراهية ما لا اكره

ما دام هناك: تبغ وثقاب وشوارع!

لكن مواجهة الشيء يتطلب وصفه أولا، كما هو لا كما كان ينبغي أن يكون، فالشاعر يصور لنا كيف أصبح حد الرغيف بصلابة الخنجر

“وأن قهر الجائعين، سوف يهدر ذات يوم

بأشرعته الدامية وفرائضه الغبراء”

وانه لم يرى النور منذ زمن طويل:

منذ مدة طويلة لم ارى نجمة تضيء

ولا يمامة شقراء تصدح امام الوادي

إن صاحب ديوان “الفرح ليس مهنتي”، صادق معنا ومع نفسه، إنه يرسم لنا لوحة عن الواقع كما يراه لا باعتباره “أفضل العوالم الموجودة” بل أقبحها، حيث النهود الممزقة والبطون المبقورة والأظافر المقتلعة، حيث الجوع والفقر والظلم والأحلام المجهضة.

وهو يرى نفسه المخلص تارة:

“انا امير ها سيفي يتدلى وجوادي يصأل على التلال”

ثم يقلب الصورة الشعرية رأسا على عقب ليجد نفسه مجرد متسول على الأرصفة:

“انا متسول ها انا ذا اشحذ اسناني على الأرصفة وألحق المارة من شارع الى شارع”
إن هذا التقلب من البطولة الى تصغير الذات نجده جليا في قصيدة اخرى له يقول فيها:
لقد آن الأوان لتمزيق شيءٍ ما

للأبحار عنوةً تحتَ مطرٍ حزينٍ حزين

لا كمغامرٍ تلفهُ سيولُ الحقائب والأزهار

بل كفأرٍخسيسٍ

كفأرٍ دامع العينين

يستيقظُ مذعوراً

كلما ناحت أحدى البواخرْ

وتألقت مصابيحُها

كعيون الضباع المبللْ

إن الشاعر يبدأ بعبارة ثورية “لقد آن الأوان…” لكنه ينتهي بوصف نفسه ب“فأر خسيس” ألا يذكرنا هذا بشخصية “راسكولنيكوف” الذي كان يرى نفسه مثل نابوليون ينصب نفسه مدافعا عن العدالة، ثم فجأة وبعد ارتكابه لجريمة قتل العجوز يكتشف أنه مجرد حشرة خسيسة، نعم ان موقف الماغوط هنا يطابق تماما موقف “راسكولنيكوف” في الجريمة والعقاب، فلربما كان يشعر هو ايضا بأنه ليس مؤهلا لخرق الحاجز وتجاوز قانون الطبيعة، انه بعبارة ليس من طينة نابوليون، وبالتالي فهو يتقوقع حول ذاته ويرتد عليها.

إن مجمل كتابات الماغوط مسكونة بهاجس الخوف والرعب لا نكاد نجد لها مثيلا إلا في روايات فرانز كافكا الكابوسية فهو يقول في إحدى ابياته الأكثر سوادا:

وراء المدينة الغارقةِ في مجاري السلّ والدخان

بعيداً عن المرأة العاهره

التي تغسل ثيابي بماء النهر

وآلاف العيون في الظلمه

تحدق في ساقيها الهزيلين ،

وسعالها البارد ، يأتي ذليلاً يائساً

عبر النافذةِ المحطَّمه

والزقاقُ المتلوي كحبلٍ من جثث العبيد

وفي حواراته التي ضمنها كتابه “إغتصاب كان وإخواتها” يقول عن خوفه ذاك “ولدت مذعوراً وسأموت مذعوراً، أنا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني. الأمة العربية لها أسس فريدة من نوعها.. جميع الأمم مقوماتها اللغة والتاريخ والدين، ما عدا الأمة العربية، فمقوماتها اللغة والتاريخ والدين والخوف، وانا فرد من هذه الأمة. وخوفي طبيعي، بل إن طمأنينة الآخرين هي المستغربة. والعربي الذي لا يخاف، أشك بعروبته!”

لقد كان شعر الماغوط شعرا ملتزما بقضايا ومشكلات المجتمع العربي وكان هو عضوا داخل الطبقة الكادحة المهمشة، والشاعر المعبر عن همومها، بلغته البسيطة بساطة الإنسان المدافع عن عرضه ووطنه والمتشبث بأحلامه فتولد لديه ذلك الشعور بالخوف، الخوف من المستقبل، الخوف من الجلاد الذي ظل يلاحقه طوال حياته، الخوف من الهزيمة… وقد صدق البير كامو عندما قال”ان الشعور هو الذي يولد التمرد!

“شعر محمد الماغوط”..

Exit mobile version