ممنوعات مباحة

كنا حينها مراهقات بدأنا للتوّ نرفع أنوفنا في شَمَمٍ ونتحسّس أجسادنا وقد بدأت تكبر و تكتنز، مُغرَمَاتٍ بالمُمَثّلين ذي اللَّحايا السوداء والأكتاف العريضة، نتبادل دفاتر الذكريات ونحلم بذلك “الفارس المغوار” وهو يتمايل متفاخرا على خيله لينتشلنا ونرقص سويا كما في الأفلام الهندية، نحلم بقصة حب سرمدية، حب تتغنى به القصص طويلا وتغار منه النسوة كثيراً.

نتمرد بليونة على تلك السُّلَط التي كنا نَخالُها تقيد حريتنا وتأتي على أحلامنا الكبيرة لتقوّضَها، فنسلك الممرات الخلفية كلصٍّ هارب من أيادي الشرطة، ونتسلم رسائل الشباب المعجب خفية وندسُّها بين الكتب والدفاتر، نطلق العنان لشعورنا الطويلة و قد تجاوزنا صاحب الدكان الذي لا يملك داهية تعفونا من نظراته واستراق أخبارنا فنلعنه كلما تجاوزنا جحره و ندعو له بذهاب لا إياب بعده، هو الذي ينتظر أن يقتنص زلة إحدانا حتى يذيع صيتها و يجعلها علكة بين أفواه العادي والبادي، بينما موسى حلاق الحي، ذلك البدوي الذي جاء للمدينة عند خاله كي يتعلم الحلاقة ويجعل منها مكسب رزق بعد أن ودّع حُجرات الدراسة فاقداً الأمل في التعلم لتصدق نبوءة أستاذة الفيزياء الفظة ذات الشعر الأشعث وقد أقسمت له يوما بعد أن عجز عن موازنة معادلة كيميائية أمام زملاءه أنه لن يعمّر طويلا بين جدران أقسام الدراسة، كانت سخرياتها المتكررة و وابل الشتائم الذي تغرسه في قلبه كافية بأن تنشئ فيه عقدا عديدة و حقدا سيورثه لخلفه.

كيف يمكن لمن يُرجى منهم تحبيب الدراسة لأبناء الوطن أن يكرهوهم فيها؟ لا زال موسى يذكر تلك الأستاذة ويقر أن شبحها لا زال يتربص به ويخبره أنه سيموت فاشلا، وقد نخرت الديدان جثته وطالها التعفن. موسى البدوي بسذاجته وعفويته لم يسلم من لعنة الحب الذي خاض مسارا طويلا وعسيرا في قمعه فلم يفلح وهو يطرق أبوابه خجولا ويتلصصه عبر النوافذ، كان عاشقا صادقا لصديقتنا الشقراء مُنى ويحاول بمعارفه المتواضعة كتابة رسائل واعترافات لمحبوبته.

لم نكن نعرف و نحن ندلف للفصل يومها في غاية أناقتنا وزينتنا أن السيدة الناظرة ستمر بين الأقسام لكي تتفقد سير الأمور وتقوم بحملات التفتيش التي تسهر عليها بين الفينة والأخرى، لم يكن الأمر مرَحَبًا به وزرع في قلوبنا أمواجا من الذعر تتقاذفنا بين مد وجزر، وتوثّبَتنا جيوش من الفزع. فبدأنا نتفصد وندير وجوهنا يُمنة ويسرة بحثا عن منفذ لممنوعاتنا التي ستسبب لنا رزءاً سيكلفنا الكثير.

أفرغت كل واحدة منا ما في حوزتها من ممنوعات و نجحنا في إخفاء بعضها زرعا في ملابسنا وهرّبنا باقيها مع مريم التي تسلحت بالشجاعة وقذفت بها من أعلى السور بعد ادّعاءها الذهاب لدورة المياه في تجسيد حقيقي لدور البطولة الذي كان سيطردها من المدرسة لو فشلت وكُشِف أمرها، ومنى لم تملك خيارا لرسالتها سوى جعلها تهوي عبر النافذة دون أن تقرأ براءة حروف موسى الذي عانى كثيرا في كتابتها وإيصالها لها، وكم من اعترافات حب لم تنطق وانتحرت بين مطرقة الصمت وسندان الكبرياء، و كم من رسائل حب اُغتِيلَت جرّاء محاكم تفتيش مستبدة!

ممنوعات مباحة

خولة الفلاحي

يستهويني الحرف ويجذبني القلم

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *