الأثر الوظيفي في الدراسات الصوتية

عن المرفولوجية الصوتية في اللغة

إذا كان فيردناند دوسوسير قد ذهب إلى القول إن اللغة نظام من العلامات، فإن مدرسة براغ –الاتجاه الوظيفي– ترى أن اللغة نظام من الوظائف، حيث اعتبرت اللغة نظاما للتواصل والتعبير، كما ربطت المعالجة المورفولوجية الصرفية بالفونولوجية الصوتية،حيث ظهرت الوظيفية كرد فعل على الدراسة النسقية للبنيويين ومعالجتهم التركيبية المحضة للأصوات، وقد نشأ هذا الاتجاه في بداياته مع فيلام ماثيسيوس، إلا أن مبادئه الكبرى لم تتمظهر كليا إلا مع تروبتسكوي وياكبسون وأندريه مارتيني..، إذ فرعوا مفهوم الفونيم كما جاء عند سوسير، والذي أرسى دعائمه ديكورتناي من قبل.

اعتبر تروبتسكوي الفونيم أصغر وحدة لسانية دالة تؤدي وظيفة تمييزية، ذلك أن هذه الأخيرة تمثل أساس البحث الصوتي عنده، مثلما نلفي في الفعلين “تاب وناب” فالفارق الأساسي بينهما يتمثل في الفونيم تاء ونون، وهنا نستحضر مفهوم التغاير والتضاد في المجال الصوتي، ويقسم هذا التمايز إلى إيجابي وسلبي، يتحدد الأول في كون الفونيم يكشف عن معنى الكلمة في مقابل باقي الفونيمات الأخرى، أما السلبي، فحينما يقلب الفونيم إلى آخر مع الاحتفاظ بنفس المعنى، كإبدال السين صادا في “مسمار-مصمار” مع الاحتفاظ بالمدلول نفسه.. يستخدم تروبتسكوي عنصر التضاد الفونولوجي للدلالة على السمات الأساسية المميزة للصوت، من قبيل التضاد الموجب (+مجهور) والسالب (-مجهور)، وذلك في مسعى منه لجعل الدرس الصوتي أكثر وظيفية، إلى جانب التضاد المتدرج الذي يمكن التمثيل له بالصائت الصغير -الكسرة- والإمالة اللتان تتواجد السمة في كل منهما بقدر مختلف ومتدرج، إضافة إلى التضاد المتكافئ الذي يتحقق من خلال الاختلاف بين الصوتين في موضع النطق وتشابههما في السمة كحرفي الطاء والكاف، زيادة على التضاد الثنائي القائم على إحصاء الثنائيات المتشابهة في الخصائص والسمات النطقية، مع فارق بسيط، كما هو الحال في حرفي الكاف والخاء، وأخيرا التضاد متعدد الجوانب كالحاصل بين الصوامت والصوائت، والتضاد المتناسب الذي نجده متضمنا بين صوت وآخر في سمة واحدة كالجهر مثلا.

أعطى رومان ياكبسون أهمية كبرى للملامح المميزة من خلال كتابه “مبادئ اللسانيات العامة ” إذ اعتبرها مجموع الخصائص المتباينة لصوت محدد وذلك من خلال تطوير نظريته الفونولوجية القائمة على الازدواجية الصوتية،.. وقد اعتمد ياكبسون المنهج الدياكروني التعاقبي عكس سوسير الذي انتهج السانكرونية التزامنية، وهذا ما حذا به إلى تقسيم السمات إلى اثني عشر سمة، تتحدد في: مجهور/مهموس، غليظ/حاد، رخو/شديد، مزيد/غيرمزيد، شفهي/غني، متكثف/منفش،.. وهذه السمات تنتظم جميعا تحت ثنائية “صامت/صائت“.

يقوم تصور أندريه مارتيني على اعتبار اللسان أداة للتواصل والتبليغ؛ ويستبعد بذلك التصور القائل بكونه نسخا للواقع كما هو، بل يحدده بكونه تعبير عنه بمواصفات تستحضر خبرات الجماعة اللسانية..، إن السمة المميزة للغات الطبيعية عند مارتيني تتمثل في كونها تستجيب للتقطيع انطلاقا من نظرية التمفصل المزدوج، الذي قسمه إلى مستويين، يتم في الأول تقطيع المونيمات باعتبارها وحدات لسانية ذات مضمون معنوي (مدلول) وصوت ملفوظ (دال) مثل قولنا:” تناول(ت) طعام(ي)” التي نلفي فيها الضمائر الدالة صوتيا ودلاليا، أما في المستوى الثاني فنخلص إلى تقطيع المونيمات إلى فونيمات، وهذه الأخيرة تعد وحدات صوتية غير دالة، من قبيل “منير -مثير” فالثاء والنون ليس لهما وظيفة دلالية في حد ذاتهما، بل لا يحملان إلا صفات أكوستيكية محددة.. وقد خلص مارتيني من خلال دراسته للتمفصل المزدوج إلى نظرية الاقتصاد اللغوي القائمة على كون الإنسان يستخدم أقل عدد ممكن من الأصوات للتعبير عن أكبر عدد من المعاني، وهذا ما نجده في جوانب متعددة من التعابير الإنسانية كقول الفرد “أنا غضبان” بدل أن يصرخ للتعبير عن غضبه؛ حيث تتخلص اللغة من كل ما من شأنه إعاقة عملية التواصل واستبعاد على الأصوات المتشابهة مقابل التوسل بالاختلافات الفونولوجية.

إن المعالجة الوظيفية للدرس الصوتي تنطلق من اعتبار اللغة وسيلة للتواصل؛ إذ قام رواد الاتجاه الوظيفي، ونيكولاي تروبتسكوي على وجه التحديد بالتأكيد على أهمية التضاد الصوتي والترميز له بالخصائص النطقية (+) أو (-)، وتلاه في ذلك رومان ياكبسون من خلال تفريع السمات المميزة إلى اثني عشر سمة واعتماد المنهج التعاقبي التطوري في معالجة اللغات فونولوجيا، كما أن الدراسة الوظيفية للأصوات لم تكتمل إلا مع مجهودات أندريه مارتيني من خلال تطوير مفهومي الفونيم والمونيم في إطار نظرية التمفصل المزدوج واستخلاص مبدأ الاقتصاد اللغوي انطلاقا من هذا الأخير.. إن المعالجة الوظيفية تعتبر من بين أدق الدراسات الصوتية الحديثة التي قاربت اللغة وظيفيا انطلاقا من المرجعيات اللسانية والبنيوية كما حددها دوسوسير في كتابه “محاضرات في اللسانيات العامة“، وبذلك لا يمكن اعتبارها إلا من أهم المدارس اللسانية المطورة لمفاهيم فونولوجية كبيرة كمفهومي الفونيم والمونيم.

الأثر الوظيفي في الدراسات الصوتية

زهير قرطيطة

أدرس بالمدرسة العليا للأساتذة الرباط، مهتم بالتدوين والفكر العربي عامة، وكذا تحليل الخطاب الأدبي خاصة.

تعليق واحد

  1. أريد معرفة تجليات الفونيم في الصواتة الوظيفة ، أو بغبارة اخرى وظيفة الفونيم في الصواتة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *