رحيل بلا وداع

فسلام كلّ السلام لمن بات في القلب ذكراهم حتى وإن غاب عنّا لقياهم.

إني أعلم أنّ الرحيل ينهي كلّ شيء، وأن الموت لا مفر منه وأنه مصير كل واحد فينا…
لكنّي في لحظة الفقد والحرمان أتساءل كثيرا لماذا كان في الحياة النهاية، اللا شيء، العدم، الموت..
لماذا يخلق الإنسان ويتعذب ويفني حياته للحصول على حياة رغيدة يتمتع بها ونهايته للعدم للاشيء ؟!
أما كانت الحياة ممتعة أكثر إن لم يكن هناك نهاية..

لكن حينما تنصت إلى مظاهر الكون والطبيعة ستجد كلها تنذر بالرحيل، وأنّ كلّ شيء خلق بقدر..
فالله يعلم أن عقل الإنسان لا يتحمل الخلود في هذه الحياة، وإلاّ لم يرض أحد بملكه، ولم يكتفي إنسان عن شهواته ورغباته، ولم يلق الظالم أحداً يحاسبه.. لكانت الحياة تحوّلت إلى غابة لا يوجد من يرأسها، الكل أصبح زعيم نفسه.
لم أكن أملك شجاعة تكفيني لأتحدث عن رحيل أحبتي، وإني أعلم جيداً أنني لا أتقن فنّ الوداع، لكن عند رحيل جدتي غمرني الحزن والأسى، أصبحت عاجزة أرى الحزن بعيني أمي ولا أستطيع فعل شيء، قد قررت أخيراً بأن أكتب إليك لعلّ في الكتابة نار جرحي وألمي تنطفئ، لعلّ الوجع والحسرة في قلبي تهدأ، لأول مرة تخونني كلماتي، حروفي أصبحت عاجزة عن تعبير عما بداخلي، شعور خليط بين الشوق إليك والحزن والألم، قد خاب أمل لقائي بكِ يوماً..

حضن الجدة الدافئ – صورة تعبيرية

” رحيل أحبتنا يحزننا فكيف إن كنا في الغربة بعيدين عنهم لا نملك الحصول منهم حتى على وداع أخير”
تسع سنوات كان عندها أمل بأن تلتقي بأولادها يوماً، تأمل أن يعود كل ابن لحضن أمه، تأمل بأن تنتهي الحرب ويعود السلام لبلدها ويدخل بيتها، وتعود البسمة التي اختفت من يوم فراق أولادها…

يشيخ الجسد ويهرم ولا يشيخ قلب الأم، جدّتي التي عهدتها لا يهزها مرض، ولا تتعبها الحياة ولا شيء يؤثر عليها جبارة قوية ،تراها في عمر السبعين جبلاً يمشي على الأرض، جبلاً يتحرك على هذا الكوكب وله أقدام، إلاّ أنّ فراق أولادها دمرها، وحرق قلبها وجعله كالفتات، الحرب شتت شملهم، أخذتهم منها الغربة وجعلت بين كل واحد منهم آلاف الأمتار..

فماالذي حوّل الروض إلى نار ؟!
حلمت كثيراً ياجدتي بأن أعود يوماً إلى بلدي وأعانقك، وأسمع حكاياتك التي لطالما عشقتها منذ صغري، لم أكن أتوقع أن يأتي يوم وتكوني أنت بطلة قصتي وروايتي، لم أنس من تلك التفاصيل شيئا، كيف كنت تتفاعلي مع القصص ملامح وجهك خطوط الضحك البائنة على وجهك الذي يشع نوراً من الإيمان.. نعم راوية القصص وصانعة الحكايا قد رحلت، رحيلأ بدون عودة، انتقلت المرأة المناضلة الجدة المكافحة إلى ربها فهو أحن عليها من أمها…

رحلت..وهي لآخر لحظة من عمرها مازال عندها أملٌ بأن تعانق أولادها وتضمهم ..
تسع سنوات وتسع أولاد وأربعون حفيدا وحين حان الموت لم تجد بقربها أحدا منهم… كم هي مؤلمة الحرب !! لقد تركت وجعا لا ينسى ودمارا لا يرمم وروحا شابت قبل ميعادها..

في غرفة العناية المشددة وحيدة تغرق في بحر من البكاء، كيف للروح أن تغادر جسدها وهي لم تروي ظمأ عينيها بلقياهم “وكأنّ في رؤية أحبتنا تمدّنا الحياة شيئاً من العمر ” تبكي معها الجدران وتارة تواسيها،
تنظر للطبيب بعينيها الذابلتين، رحمة بك أيها الطبيب، كف عن العلاج، مرضي ليس له دواء، فمن يطفئ نار شوقي لأولادي، دعني أرى وجوههم ففراقهم مرضي الوحيد الذي لا علاج له..
ما أقسى الحدود.. الجدران.. الأسلاك .. حينما تبعدنا عن حضن من نحب..

أما أنا بقيت هنا… حيث أنا والمنفى.. بعيدة عن الوطن، بعيدة عن حضن من أحب، بعيدة عن روح الوطن، وقفت للحظات ألتمس صدمتي وشعرت وكأنّي فقدت شيئاً ما، قطعة ما اختفت، أصبح الوطن ناقصاً، موحشاً كظلام الليل وظلمة القبر، كم هو مر شعور الحزن والألم!! كم هي مؤلمة الغربة !!
تنهش جسدك دروسها اللامنتهية، الوحدة هي موت لكن على قيد الحياة..
لكن بعد ثلاث أسابيع من رحيلكِ أريد أن أخبرك شيئاً، أنّكِ مازلت معنا في لحظات الفرح والأسى، مازالت أمي تخبرني عن أشياءك الجميلة التي ليس من الممكن أن تنتسى حتى لو مرّ على الزمن مامرّ..
في النهاية لم يبقَ لي أيّة حيلة إلاّ أن أذكرك عند كلّ سجدة وفي كلّ دعاء …
فسلام كلّ السلام لمن بات في القلب ذكراهم حتى وإن غاب عنّا لقياهم.

رحيل بلا وداع

Exit mobile version