القراءة السريعة

بين الفهم والتعمق في الافكار والقراءة السطحية للكتب

ينصح كثير من المؤلفين-ومن أبرزهم الاختصاصي في الذاكرة العقلية (طوني بوزان)- لكتب التنمية البشرية بمايسمى القراءة السريعة، وهي قراءة إن تعمقنا في سبب الدعوة إليها، نجد أنها قد تتناغم مع ماوصل إليها هذا العالم السريع الذي نعيش فيه…، سرعة التفكير، سرعة اتخاذ القرار، المأكولات السريعة، الأحكام الجاهزة، تعلم لغة في 5 أيام، والعلاج العاجل، والتعبئة السريعة، وربط المتسائل لسؤاله بكلمة “باختصار“…، كل هذه الأمثلة قد تندرج فيما سمته (سوزان كرنفيلد) بتغير العقل البشري في زمن التكنولوجيا، بمعنى أن العقل البشري الذي من مميزاته الرصانة تهافت وراء التكنولوجيا التي من خصائصها السرعة وهكذا…، بل توهم بعض من هؤلاء المختصين باعتبار أن السرعة إلى جانب الابتكار من مميزات الانسان الحداثي، فأصبح هذا الانسان مسايرا للتقدم، تقدم يجبرنا على طرح تساؤل إلى أين؟ وهذا التقدم( تقدم يفرض التضحية بأساسيات الوجود، كالطبيعة والبيئة والقيم الانسانية والمعنى الأزلي للوجود والتضامن الاجتماعي وغيرها) بدون وجهة قد سماه بعض الفلاسفة بعصر مابعد الحداثة، ومابعد الحداثة عند (فرانسوا ليوتار) هو عصر التشكك في السرديات الكبرى، وعصر مابعد الحداثة قد يفسر على أن البشرية ارتطمت بالحائط في تبني الحداثة، فشلا ذريعا…، بالتضحية بالأساسيات المومأ إليها أعلاه.

على أي؛ وإن كان المقام يدفعنا إلى أن نتفلسف كثيرا في تبيان ماقيل في هذا الصدد، إلا أن فكرة الموضوع قد ضيقت علينا نطاقها …، والرجوع لذات الموضوع نجد أن القراءة السريعة حسب المتحمسين لها تكمن في إمكانية قراءة عدد كبير من الصفحات في وقت وجيز دون حدوث أي تأثير في فهم مغزى تلك الصفحات، معتمدين في ادعائهم على قوة الذاكرة، لكن أي علاقة الفهم بالذاكرة؟ وهل العقل له نشاط واحد يستخدمه في القراءة أم متعدد الأنشطة؟

وضربوا لذلك مثلا، فقالوا كأن تقرأ 50 صفحة وأنت تقضي حاجتك، أو حين تمتطي حافلة، أو حين تنتظر زوجتك للتبضع…، وهذه القراءة وإن كان الكثيرون قد ينادون إليها على نهج أسلافهم المعلمين في تقليد صارخ، تبين أن قبلة ادعائهم تائهة انطلاقا من سؤالين، سنطرح أوله كمدخل، فيما سنختم بالثاني. والتساؤل الأول يكمن في ماهية الموضوعات التي يمكن ان نستعمل فيها هذه القراءة السريعة التي ينادون إليها هؤلاء بشغف وحماس شديدين وماالفائدة من هذه القراءة التي ستعينك في قراءة كثير من الكتب مع وجود احتمالية كبيرة في عدم فهمها؛ هل العبرة بكثرة الكتب المقروءة أم بمافهمناه في قراءتنا لتلك الكتب؟

سنبدأ بالعلوم الطبيعية، كالفيزياء والفلك والكيمياء والبيولوجيا وغيرها…، فنقول أن هذه العلوم تجمع بين النظر والتجربة العلمية، والنظر فيها لايتطلب الاستعجال، لأن كل نظر مستعجل سيؤدي بنا إلى الوصول إلى احتمال سوء فهم لغاية الكاتب ونتائجه المتحصل عليها، وقد تكون هذه النتائج تحصيل لسنوات كثيرة من الدراسة، وبالتالي فقراءة 50 صفحة في وقت وجيز من كتاب مبادئ ميكانيكا الكم (لبول ديراك) أو فلسفة البيولوجيا (لبيتر كودفري-سميث) مثلا؛ تضعك في موضعين، أوله أنك دخلت غابة لم تدري بعد سبيلا واحدا للخروج منها، ناهيك عن السبل الأخرى، ثاني المواضع هو توهمك أنك دخلت لتلك الغابة أصلا!

أما العلوم الانسانية وهي المستعصية؛ كالفلسفة والفكر والاقتصاد والأدب والقانون وغيرها….، هي الأخرى لن تتبرع لك بأحد معانيها في وقت يقل بأضعاف مضاعفة ما تستنزفه من وقت مع شخص وأنتم تتهافتون عن ماهو أرضي- مادي (مثلا التخدث عن أنواع الأكل وعلاقته بالعضلات، فضائح العالم الأزرق، قانون الجذب، التعليق قرار سياسي الخ… من مواضيع المقاهي)، وبالتالي فقراءة 50 صفحة في ساعة من كتاب نقد العقل الخالص (لكانط)، أو المقولات العشر (لأرسطو)، أو الانسان القانوني(لسوبيو)، هي لاتزال قراءة قشورية سطحية، أو إن شئنا قلنا هي تسخينات عقلية للشروع في الانسلال إلى إحدى معاني تلك الكتب التي سترغمك على البقاء فيها طويلا، كلمة بكلمة وعبارة بأخرى، حتى إن تساءل عقلك عن الامتلاء، تساءل الكتاب هل من مزيد؟

أما الأنطلوجيات وعلاقتها بالأديان، وإن كانت الكتب المقدسة باختلاف تاريخاتها فهي لاتأمر بتاتا بالحفظ بدون فهم واستيعاب، ناهيك عن أن تأمرك بالسرعة في قراءتها، بل نجد أوامر إلاهية في التدبر في معانيها والتأمل فيما جاءت به في تريث ودراسة، دونما تهافت أو تعجل، أوامر لاخلاف في حجيتها، لكن دون أن تمارس، أو يمارس نقيضها، والكتب المقدسة في حقيقتها كتب وإن كانت قائمة على جدلية الثابت والمتغير في أحكامها، والتعبير عن ألغازها بشكل تحتمل التصور العقلاني الماضي والآني والمستقبل، فإن تصورها لحقيقة الوجود، مسلمة تقتضي التدبر في المعاني التي جاءت بها احتراما للسياقات، ودراسة ذات هذه الأفكار شيء لا يقبل أدنى جدل التوفر على شرطي العقل الهادئ والاستعمال الهادئ للوقت!

وعلى هدي ماذكر، قد يبدو دعاة القراءة السريعة وشروطهم في ذلك صعبة التحقق لعدم إمكانية الجمع بينها وبين الفهم، فالسرعة في القراءة دون المساس بنجاعة الفهم ودون سوء فهم غاية المؤلف تستعصي على قدرة العقل البشري ذاتيا، كما تتناقض مع تحصيل العلوم بشتى أنواعها التي بطبيعتها تبتغي كثير من التريث موضوعيا، وإن طفت فكرة القراءة السريعة اليوم وانسلت إلى جمهور الناس وتم النصح بها دون جمركتها ( أي مراقبتها بطريقة نقدية)، غذا ربما سيطالب هؤلاء أنفسهم بالكتابة السريعة، والامتحانات السريعة، والشواهد السريعة، والبحوث السريعة، ولو صارت دون أدنى نجاعة.

و قبل أن نختم شذرتنا هذه يعترضنا سؤال أخير سبقنا أن جعلناه للختام،حول مالفائدة المرجوة من هذه القراءة مادامت لاتستطيع أن تساعدنا في استيعاب النظريات العلمية لفهم حقيقة الوجود — نظرا أن العقل لا يتعلم في عجل بطبيعته — واكتساب المنفعة من كتب الاقتصاد والحكمة من كتب الفلسفة وتهذيب الطبع بكتب الأدب والتدبر من كتب اللاهوت والدراية بالحقوق والواجبات في كتب القانون، فأي منفعة ترجى من هذا النمط الشاذ من القراءة ؟
نجيب أنها لن تنفعنا في شيء، اللهم إلا في قراءة فواتير الكهرباء و الماء؛ أو في يوم أحد ممطر لقراءة الجرائد التي لدى الحلاق …، أو بيانات الأحزاب أوبلاغات الحكومة…، وكذا بعض التدوينات المتهافتة – وقد تكون من بينها هذه التدوينة-، وفيما عدا ذلك تسقط القراءة السريعة سقوطا مغشياعليها إلى مالانهاية. لكن للإنصاف، قد يكون القارئ السريع على طريقة سباق 100 متر أنفع وأحسن من الذي لا يقرأ أصلا!

القراءة السريعة

القراءة السريعة

كمال المنوري

طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *