قراءة في رواية “ليالي إيزيس كوبيا”

قصة الكاتبة "مي زيادة" بقلم واسيني الاعرج

أخذ الروائي والكاتب الجزائري “واسيني الأعرج” على عاتقه مهمة التنقيب عن حقيقة النهاية المأساوية لقلم الشرق الحزين الكاتبة والأديبة التي حظيت بمكانة جد عالية في المجتمع بداية القرن العشرين “مي زيادة ” والتي خطفت قلوب العديد من الأدباء والمفكرين في عصرها بخفتها ورفاعة ذوقها، وأناقتها ثم أكثر من ذلك بعقلها المستنير وفصاحة لغتها ورحابة تفكيرها فقد ألفت وأبدعت في عدة مجالات أدبية كالرواية والشعر؛ حيث كان أول ديوان شعري لها باللغة الفرنسية بعنوان أزاهير حلم les fleurs de rêve نشرتها باسم مستعار وهو “ إيزيس كوبيا” وهو نفس العنوان الذي اتخذه واسيني الأعرج لروايته.

رواية ليالي إيزيس كوبيا في مستشفى العصفورية كتاب قسمه واسيني الأعرج لقسمين حيث تناول في القسم الأول بعض المحطات التي وقف عندها، ثم المراحل التي قطعها وهو يحاول أن يبحث جاهدا عن المخطوطة التي كانت مخفية منذ عقود، وهي نفسها التي سردت فيها ووصفت الكاتبة مي زيادة معاناتها وحقيقة إصابتها بالجنون ثم أخيرا الزج بها في مستشفى الأمراض العقلية المسماة بالعصفورية في لبنان من طرف ابن عمها وسبب كل آلامها الدكتور جوزيف زيادة، بعد كل الجهود المضنية التي بذلها واسيني الأعرج برفقة روز خليل تمكن أخيرا بالحصول على المخطوطة التي تروي بإسهاب الحقيقة للتي تم طمسها منذ ردح من الزمن .

تبدأ الكاتبة مي زيادة الرواية بوصف ما حدث لها منذ وفاة والدتها التي كانت آخر حائط تتكئ عليه حسب كتاباتها؛ فابنهيار هذا الحائط تحطمت مي وانهارت هي الأخرى فقد أصيبت بانهيار عصبي لأنه رحل كل من أحبتهم من صميم قلبها، والداها ثم أخوها وحبيبها الوحيد الذي سلمته مفاتيح قلبها جبران خليل جبران سنة 1931، ثم وفاة والدتها التي تركت في قلبها جروحا لا تندمل وبالتالي انتهى بها المطاف وحيدة لا قريب ولا أنيس يخفف وطأة وحشتها، أصيبت بانهيار عصبي واكتئاب حاد نتيجة ما تجرعته من آلام ناتجة بالأساس من الوحدة القاتلة، هذا ما كان مرتعا خصبا لابن عمها لتنفيذ خطته المشؤومة فقد استغل وضعها هذا وأوهمها أنه بجانبها وسيدعمها و يساندها دائما كما سيتخذها زوجة له فهي حسب ادعائاته كانت ولازلت حبيبته الوحيدة، فأخذها إلى منزله بلبنان وجعلها بعد الكثير من الخطط والخدع الماكرة وكلمات الحب الرنانة أن توقع له توكيلا يسمح له بأن يتصرف في كل أملاكها، وطبعا بعد بلوغ مراده ارتأى أن أفضل طريقة للتخلص منها هي اتهامها بالجنون وإدخالها مستشفى الأمراض العقلية تحت الضغط والقوة.

هذا ما حدث بالفعل فتروي مي زيادة ما تجرعته من آلام داخل أسوار العصفورية، وكيف أنهم كانوا يقتلونها بكل برود شيئا فشيئا، تروي معاناتها مع الممرضة القاسية القلب وتهكم الأطباء ونقصان وزنها وحتى عن ظلم الصحافة التي تناست في لحظة مكانة الكاتبة العظيمة واتهمتها هي الأخرى بالجنون، لم ينصفها أحد و لم يقف بجانبها إنسي غير ممرضة رقيقة القلب كما تصفها هي الوحيدة التي صدقتها وقاسمتها الجرح الذي قبع في قلبها.

الكاتبة والأديبة مي زيادة

لكن رغما عن محاولات بلوهرات أوسوزي الممرضة التي رق قلبها لمي فما لبثت تقنعها حول العدول عن فكرة الانتحار البطيئ المتمثل في رفض كل ما يقدم لها من طعام والاكتفاء بشرب القليل من الماء، إلا أن مي لم ترضخ لها و استمرت في تعذيب نفسها خاصة عندما تكون لها مقابلة مع طبيبها أو مجموعة الأطباء الذين يأتون كي يشخصوا حالتها، حالة الكاتبة المشهورة أيقونة الجمال وأناقة الفكر حيث تزيد مثل هذه المقابلات من عمق جراحها ولو أنها تحاول جاهدة أن تشرح بأنها ليست مجنونة فهي فقط ضحية طمع كبير أودى بحايتها، ظلت تؤكد في كل مرة لمن حولها بحركاتها وسكناتها وحتى طريقة حديثها أنها ليست مجنونة لكن ما من مصدق لها، تروي في المخطوطة مأساتها بالتفصيل حول كل ما استقر في قلبها من أوجاع وجروح غائرة بين بني جنسها والبشر أجمعين وكيف لم ترأف القلوب لوضعها المؤسف.

ثم بعد مساندة بعض الرجال الأخيار لمي وتسليط الضوء على مأساتها من طرف الرأي العام تمكنت من الخروج من جحيم العصفورية كما سماها واسيني الأعرج بعد معاناة شديدة، لكن آثار الظلم والمرارة التي تجرعتهما حول مكوثها في العصفورية حال دون استرجاعها لنفسها التي ضاعت فقد فقدت الكثير و لم يكن من السهل عليها أن تحيا حياة طبيعية بعد كل ما كابدته في حياتها وكأنه لم يحدث شيء هكذا قررت مي الرحيل من بيروت وكل ما قاسته فيها إلى إيطاليا حيث تدهورت صحتها أكثر ثم إلى القاهرة ولكنها ليست رحلة من أجل الاستجمام بل لأنها أحست بدنو أجلها وأنها بالدرجة الأولى ذاهبة إلى هناك فقط كي تدفن بجانب أعز ما ملكته في حياتها والديها.

رواية “ليالي إيزيس كوبيا” تحمل الكثير من الدلالات التي وجب اختصارها في أن المرأة في العالم الشرقي أو العربي بصفة عامة هي بحاجة دائما لسند وبمفردها لن تسلم من الشرور المحيطة بها وستبقى فريسة سهلة للذئاب البشرية من أجل النيل منها مهما كانت مكانتها الاجتماعية والثقافية ومهما بلغت من علم، ولعل القصة الحزينة للأديبة “مي زيادة” والتي وصفتها لنا هاته الرواية خير شاهد على هذا.

قراءة في رواية ” ليالي إيزيس كوبيا “

حسناء المرابط

مدونة مغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *