الصين من لعنة الجرح الوجودي إلى شرارة التنين القادحة

لمحة تاريخية عن التقدم الاقتصادي والتكنولوجي بالصين

هل تواطأ التاريخ مع نبوءة نابليون حين قال: “هناك في أقصى الشرق عملاق نائم اتركوه لأنه عندما يستيقظ سيهتز العالم”؟، نعم لقد اهتز العالم على وقع “جائحة كورونا” من قلب الصين لكن، ولا مشاحة في ذلك، ليس هذا ما قصده نابليون وقتذاك؛ فالقائد العسكري بنظرته الثاقبة لجدار المستقبل حذر من مغبة الاستخفاف بهذه الحضارة الضاربة في القدم والتي لا تقلب ظهر المجن للتاريخ وإنما تنخرط فيه بقدرة هائلة على الالتئام، فهي كالنهر دائم التدفق ولا تسقط إلّا لتنهض من عثارها.

لطالما كانت الصين مهد الحكمة والمعرفة الخالصة، يقصدها “البرابرة” لكي يخرجوا من الغلظة إلى الرقة، ومن الرعونة إلى الإرعواء ولهذا كانت تتلفع برداء الإكتفاء الذاتي وتتدثر بإزار المجد التليد لا حاجة لها لسفر عارض بين ثنايا الأمم، فهي فريدة فرادة واسطة العقد. وهل نبدل قولا غير هذا، ولنا في تعاليم كونفوشيوس خير دليل؟؛ إنه الوجه الأكبر للحضارة الصينية القديمة، المبنية على القيم الأخلاقية تطبيقا لمثل أعلى يمكن أن نسميه بالإنسجام الأكبر أو الداتونغ الذي يرسم دوائر العلاقات في المجتمع بل حتى، مابين الحاكم والمحكوم بناء على ماكيافيلية مقلوبة، إذ الفضيلة نهج وليس الخديعة أوالقوة.

سياسة الباب المغلق التي انتهجتها الصين لقرون عدة كسر مزلاجها ابتداء من القرن التاسع عشر، وفتح الباب للاحتلال ثم التفسخ، لقد كانت حرب الأفيون(1839) التي خاضتها مع كل من بريطانيا وفرنسا قاصمة الظهر وايذانا بنهاية التقوقع على الذات وتلقّفا لريح سموم، اشتد عصفها ليوقع بنظام الحكم الإمبراطوري القائم على صنيع السلالات والأسر النبيلة، هكذا ظهرت الاتجاهات الوطنية مع سون يات سين الذي يعد مؤسس الجمهورية الصينية وأول حاكم لها، ثم تطور الأمر لصراع مع الحزب الشيوعي الذي استلم الحكم سنة 1949، في أعقاب حرب أهلية مروعة.

ابتداء من سنة 1949 ستحمل الصين اسم الجمهورية الصينية الشعبية، ستتبدى مع ماوتسي تونغ حمّالة اغراء مهدوي messianique بدولة شيوعية معادية للإمبريالية على نحو صارم يدين المعارضين وينكل بهم، لقد كانت رغبة ماو شديدة في احداث اقلاع اقتصادي ولو على حساب الفقراء والفئات الهشة، هكذا لم تلن عريكته إلّا مع اطلاق المخطط الاقتصادي “الوثبة الكبرى للأمام” سنة 1958، حيث كان يروم منه احداث طفرة اقتصادية تقوم على التحول السريع من الزراعة إلى الصناعة، والنتيجة كانت كارثة بشرية غرق معها الصينيون في مستنقع المجاعة والموت غرثى فيما يقدر بزهاء عشرين مليون شخص؛ إنها انتكاسة عقبتها انتكاسة أخرى أخمصت بطن الصين وأضمرته وألقته من جديد في سدف الإنكفاء، وذلك كله من بنات أفكار الزعيم ماو الذي حار أهله في توصيفه مريدا مطواعا لماركس وانجلز أو صورة ملونة لكونفوشيوس أم مستبدا مستنيرا، وعلى كل حال فما أن أعطى صافرة الإنطلاق لمشروع الثورة الثقافية سنة 1966 حتى ظهر وجهها الذميم فكانت وبالا تهاوى دراكا ودمارا على المجتمع الصيني وأدى إلى تدمير الآثار والمواقع الدينية والثقافية للدولة.

إن هذين الامتحانين العسيرين اللذين خاضتهما الصين لحد الشفرة التي يمكن أن تقطع أي ارتباط ايديولوجي بالمنظومة الاشتراكية لكن، بنهاية الإغراء المهدوي مع ماو وكما أورد المفكر حسن أوريد في كتابه “عالم بلا معالم” أضحت: “لا تحمل الصين، أو التنين الأصفر، أيديولوجيا، ولا هي تحلم بدعوة مهدوية، ولا هي تنطلق من الفهم الغربي لبلد تحده جغرافيا، ولا لمفهوم الدولة الأمة، فالصين ليست بلدا وإنما هي بالأساس حضارة، ولذلك لم تتأذ كثيرا حين تبنت أيديولوجيا ظهرت في الغرب هي الشيوعية، ولم ترهن بلدها أو حضارتها لخدمة الأيديولوجيا، بل جعلت الأيديولوجيا في خدمة البلد أو الحضارة.”

وعلى هذا النحو ستعنّ للعلن اشتراكية بمواصفات صينية هدفها الفعالية وليس الأيديولوجيا، وسيكون منظرها دينج شياو بينغ الذي كان مدركا لحجم الدمار الذي أحدثته الثورة الثقافية ولهول الأخطاء المرتكبة والتي قد تنكسر معها أي اصلاحات على جلمود الصخر؛ على خلاف ماو دعا دينج إلى انفتاح اقتصادي وإلى تشجيع العلم والتكنولوجيا ونبه إلى ضرورة التخلص من أوصاب الحزب والحث على التفكير الذاتي بدل الانصباب في قوالب مألوفة، وهكذا منذ سنة 1980 أخذت المبادرة الفردية ونظام السوق يتلمسان طريقهما وذلك عبر مراحل في اطار مقاربة براغماتية، وفي غمرة الصعود إلى نادي الكبار برزت أحداث ساحة تيانانمن لسنة 1989 لتربك الحسابات، ولأن عنصر التوقيت مهم في مسار التاريخ فقد كانت تلك ساعة الصفر، ولم تكن تلك الإنتفاضة لحاجة في نفس يعقوب، بل ترجمة لسياق ملتهب مع سياسة غورباتشوف الإصلاحية في الإتحاد السوفييتي وتوزع المجتمع الصيني حيالها بين داع للإنفتاح الكامل وبين هيّاب من اتساع فجوة الفوارق الاجتماعية. وبمنطق لا يحيد عن سابقه وبذاكرة موشومة لا تنط عن التفاصيل hypermnésie استعاد دينغ تمترسه وراء القوة كما حصل في ثبج الثورة الثقافية، وكادت الصين أن تراوح نفسها من جديد.

كاد ولم يحدث، فعندما استخذت الصين للعقوبات المفروضة عليها من لدن مجموعة السبع، التفت العالم مطلقا زفرة حرّى تأسفا لنهاية موشكة ولكن، كما طائر الفينيق ينبعث من رماده التنين كذلك لا تخمد النيران في جوفه، هكذا استطاعت الصين أن تستميل مكوناتها ممن يسمون بصينيي الدياسبورا أولا، سواء في هونغ كونغ وتايوان، أو من يعرفون بمصطلح Tycoons أو رجال الأعمال، ثم ثانيا من جوراها القريب رغما عن المخلفات التاريخية كما مع كوريا الجنوبية واليابان.

لقد بدأت الصين تسترد عافيتها تدريجيا وتسلك منحى نفعيا مع محيطها الخارجي، كما تحفظ شعرة معاوية مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد الموقف الحازم الذي قوبلت به جراء تعبيرها عن امكانية اللجوء إلى الخيار العسكري لتحقيق الوحدة وضم التايوان، بلغت الصين مع سنة 2010 -وبعد سنتين من الأزمة المالية لسنة 2008 والتي غاضت فيها أوروبا والولايات المتحدة إلى الركب- ما يسميه الخبير الأمريكي ديفيد شامبوغ سن النضج من الناحية الإقتصادية، ورانت بثقلها على العالم، ويكأن الصراع القائم في القرن العشرين ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لدواعي ايديولوجية قد تحول قطب رحاه في القرن الواحد والعشرين ما بين الولايات المتحدة والصين لدواعي التنافس الاقتصادي والتكنولوجي، وقد استعر النقاش أكثر خاصة مع مضاعفات أزمة كورونا وتراشق الاتهامات فيما بين الدولتين، على اعتبار أن الصين قد استفادت أكثر من أي دولة من العولمة واستطاعت التغلغل في القطاعات الدقيقة كما شركة هواوي Huawei لكنها لم تستطع بعد أن تمحو لعنة ما يتعرض إليه مسلموا الإيغور في إقليم التبت، فكانت عندها كالبُغاث إذا استنسر.

الصين من لعنة الجرح الوجودي إلى شرارة التنين القادحة

شيماء الغازي

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه ومدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *