الصين العملاق الآسيوي ودبلوماسية الأموال السائلة

هل يتربع التنين الآسيوي على عرش الاقتصاد العالمي؟

تُعَد التجربة الصينية من النماذج الدولية المميزة والفريدة من نوعها، وذلك بفضل المعجزة الاقتصادية التي تم تحقيقها في وقت قصير، حيث نجح الاقتصاد الصيني في أن يصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية (وغالبية التوقعات والمؤشرات الاقتصادية تتنبأ بمزاحمة الصين أمريكا على المركز الأول في الاقتصاد العالمي).

ولا يمكن الحديث عن النهج -أو بالأحرى السياسة الاقتصادية الصينية- دون الإشارة إلى دور باقي الفاعلين الدوليين الرئيسيين في العالم المعاصر، وعليه يمكن القول أن القرن التاسع عشر كان المحطة الأبرز في التحول الاقتصادي العالمي، فخلاله كانت هناك إمبراطوريات متحاربة برزت على رأسها الإمبراطورية العثمانية والفرنسية والبريطانية والنمساوية والمجرية والروسية واليابانية، وانتقلت مع القرن العشرين إلى دول متحاربة ظهرت منها بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي والصين، لتتحول في القرن الحادي والعشرين إلى دويلات متحاربة، وفواعل (ما فوق الدولة وما دون الدولة) في إطار بنية عالمية وإقليمية غير مستقرة، ولكن تبقى هناك أطراف تملك القدرة على التحكم في جوانب هذه البنية، والسيطرة على إدارتها بما يتوافق ومصالحها الشخصية وأنماط تحالفاتها، تجسيدا للمبدأ العام الذي ينص على أن العلاقات الدولية والتحالفات السياسة تقوم على أساس المصالح..

ومن بين هذه الأطراف والتي برزت بشكل واضح مع اقتراب العقد الثاني من القرن العشرين، أربع قوى يمكن وصفها “بالكبرى” في طليعتها:
– الولايات المتحدة الأمريكية: صدق من قال “أنه عنما تعطس أمريكا يصاب الاقتصاد العالمي بنوبة برد”، ولعلها عبارة تلخص الامتداد والوجود الرئيسي لأمريكا بالاقتصاد العالمي.
– الاتحاد الأوروبي: وذلك لما تملكه دول الاتحاد الأوروبي من مكونات وقدرات بشرية وصناعية عظيمة.
روسيا الاتحادية: لما تملكه من تراث تاريخي وإمكانيات مادية وبشرية وأسلحة نووية فضلا عن تميز واتساع رقعتها الجغرافية.
– اليابان: لكونها حليفا استراتيجيا قويا للولايات المتحدة الأمريكية وواحدة من أعظم القوى الاقتصادية في العالم ثم
+الصين الشعبية: أو كما تلقب بالتنين الآسيوي؛ فبالرغم من المشاكل المتعددة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي على غرار ارتفاع النمو الديمغرافي، انخفاض نسبة الصادرات والواردات، ضعف مؤشر التنمية البشرية خاصة “بالقرى” حيث تحتل الرتبة 81 عالميا، إلى جانب فيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الصين تمارس بشكل واسع ومدروس ما اصطلح عليه بدبلوماسية “الأموال السائلة” والتي تقوم وتشكل دعامة أساسية تفسر الصعود الصيني القوي الرزين في النظام الدولي، الأمر الذي دعم امتداد مصالحها إلى مختلف دول العالم لتتقاطع بذلك مع مصالح القوى المجاورة في عدة مناطق.

فهناك تقاطع في المصالح مع روسيا في آسيا الوسطى، ومع أوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران وأفغانستان وكوريا الشمالية؛ كما أن للصين نزاعا حدوديا مع الهند، وتتقاطع معها في المصالح في باكستان وسيرلانكا أيضا، ولا يجب أن ننسى العداء التاريخي بين الصين واليابان والذي لا يزال يلقي بظلاله على العلاقة بين البلدين إلى الآن..

وبالرغم من هذا وذاك، فالحضور الصيني يبقى قويا على جميع الأصعدة وخاصة الجانب الاقتصادي، حيث تقول مجلة “موي نغوثيوس إي إيكونوميا” (Muy Negocios & Economía) الإسبانية أن “الاقتصاد الصيني يشهد نموا سريعا، بالتوازي مع تنامي الطلب على السلع الفاخرة وتزايد عدد الأثرياء في العالم، ففي غضون عقدين من الزمن تحولت الصين ذلك العملاق الآسيوي من دولة نامية إلى أكبر تهديد للهيمنة الأميركية على العالم”، وتنبأت المجلة ذاتها أن الصين في القريب العاجل ستتربع على عرش الاقتصاد العالمي مزيحة الحضور الأمريكي القوي؛ مضيفة أن أبسط دليل على ذلك طبعا أنك إذا ما ألقيت نظرة على أي منزل في أنحاء المعمورة إلا وحتما ستجد مكتوبا على أحد المشتريات به عبارة (صنع في الصين؛ made in china).

صورة تعبيرية

هذا ويرى عديد المحللين أن الجانب الاقتصادي وحده لا يكفي الصين لضمان استمرار صعودها القوي مما يتطلب زيادة قوتها السياسية والعمل مع الدول الأخرى، فإذا أسفر صعود الصين عن فوائد كافية لدول معينة فقد يقلل ذلك من حدة الصراعات، أما إذا صعدت الصين بتكاليف عالية أو منافع لا تكفي للدول الأخرى، وتصادمت مع مصالح القوى المنافسة عالميا -هنا الحديث عن أميركا، روسيا، أوروبا واليابان- فسيكون من الصعب تجنب الصراعات المستقبلية وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يبقى الأمر تحصيلا حاصلا بمعنى أن التجربة الصينية رغم ذلك بقت متمسكة بالملامح الاشتراكية ودمجتها قدر الإمكان بالعناصر الاقتصادية الرأسمالية التي تتوافق مع توجهات السوق العالمي التي تغيرت بشكل كبير بفعل قوى العولمة والنظام العالمي الجديد، لتتمكن بذلك من تحقيق عديد الأهداف الاستراتيجية حيث استطاعت أن تزيد قيمة الناتج المحلي الإجمالي أربعة أضعاف ما كان عليه في عام 1980، فبلغ الناتج المحلي في عام 1995 حوالي 5760 مليار يوان مما شكل قفزة كبيرة في تاريخ التنمية الاقتصادية في الصين، كما نجحت في زيادة دخل الفرد من 390 دولار إلى 7820 دولار خلال الفترة (1992-2015)، علاوة على وصول الناتج المحلى الإجمالي بحلول سنة 2010 إلى 26.1 تريليون يوان، أي بزيادة قدرها 7.5% مقارنة بعام 2005 حيث كان يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني (18.6)؛ وساعد هذا النمو الاقتصادي على وجود زيادة مستقرة في الإيرادات المالية الوطنية مما ضمن تدفق الأموال في العديد من المجالات؛ هذا ولا ننسى دور وباء كورونا وما فرضه من انكماش وما خلفه من تداعيات جمة على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حيث حقق نموا بنسبة 4.9% بين يوليو/وسبتمبر، مقارنة بالربع ذاته من السنة الماضية.
بيد أن نسبة النمو تظل أقل من 5.2% وهي النسبة التي توقعها الاقتصاديون.
وتتصدر الصين الآن جهود التعافي الاقتصادي في العالم بناءً على آخر الأخبار المتعلقة ببيانات الناتج المحلي الإجمالي. وتظل نسبة النمو التي سجلها الاقتصاد الصيني، وهي تقريبا 5%، بعيدة كل البعد عن الركود الذي شهده الاقتصاد الصيني في بداية عام 2020 عندما بدأ الوباء بالتفشي.

ولا تفوتنا الإشارة إلى نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتأثيرها على الوضع الدولي، فقد أدى انتخاب جو بايدن رئيسا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية إلى عودة سؤال العلاقة بين أكبر قوتين اقتصاديتين إلى الواجهة مرة ثانية، بالرغم من أن بايدن وعد بأن يكون تعامله مع الصين “ذا نبرة متزنة وأن يعيد توحيد التحالفات الممزقة على المسرح العالمي” إلا أنها خطوات قد تحمل تهديدا جيوسياسيا أكثر حدة من الذي كان مع سلفه دونالد ترامب بالنسبة إلى بكين؛ وعليه فمن المتوقع أن تزداد المنافسة الأمريكية قوة والتوجس الصيني اشتدادا.

الصين العملاق الآسيوي ودبلوماسية الأموال السائلة

خالد ميموني

باحث في العلوم القانونية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *