اللغات المعبرة عن القانون

في فلسفة القانون

قد أحلت سابقا في مقالة لي ماقاله الفيلسوف التفكيكي جاك دريدا حين ربط اللغة بالعدالة ،بالقول ” يجب أن أتحدث لغتكم كي أبدو أكثر عدلا …“، وتذكرت حين وقفت على هذه المقولة مادار بيني وبين أحد المحامين بالدار البيضاء بعد أن فرغ من استكمال مذكرة جوابية في قضية تتعلق بإفراغ محل سكني ..، وقد نهج فيها هذا المحامي الشاب نهج أسلافه من المحامين الأذكياء، حين كتب مايجب أن يكتب بلغة فقهية بليغة المعنى ودقيقة المرمى، فحين سألته عن هذا الأسلوب…، رد قائلا أن القاضي كان مجازا في الشريعة الإسلامية ولذلك كتبت بلغته…، واختيار المصطلحات حسب دلالات أعراف الناس هو نفسه الذي يستعمله السياسيون الأذكياء وكل ذي منبر يسمح له بفصل الخطاب لاستمالة عواطف المخاطبين غير الأذكياء…!

وكان ممن أثار هاته المشكلة هو الفيلسوف النمساوي لودفيغ فينشتاين- وهو فيلسوف مهتم بتحليل اللغة – يقول في كتابه الذائع الصيت “ بحوث فلسفية” أن اللغة ستبقى في معضلة أبدية في تناقض بين الاستخدام والفهم، فلا يكون على المؤلف سوى أن يعرف اللعب باللغة — يسخر هنا فيتغنشتاين من عدم وجود جوهر موحد للاستعمالات المختلفة للغة — ليحقق أي أهداف مزدوجة لمصلحة يتوخاها في خطاب موحد، وهو ما قد يتناطح مع كل ما جادت به اللغة على تطور عقل الانسان المنضبط بالكوجيتو الديكارتي إلى يومنا هذا، كما أن الكثير من أصحاب الفضول الفلسفي — وقد أكون أنا طفلا بينهم — يستعصي علينا فهم غياب مقولة اللغة عن المقولات الترسندالية لكانط (المقولات البديهية التي يشتغل بها العقل علاقته بالوجود ) تحيينا لمقولات أرسطو ؟!

ولكي لا نمتعض عن الموضوعية حرصا ألا تتهم تدوينتنا بايديولوجية الهوى، سنستدرج ماقلناه في المقدمة أعلاه إلى ميدان القانون، وهو ميدان تدار فيه المعارك الكبرى مع اللغة في صمت وهدوء، فالقانون بوصفه أداة لتحقيق وظائف أساسية متعددة الأبعاد في محاولة توافق قد يكون عصيا على وعاء اللغة المستعمل أن يكون قادرا على تحقيق تلك الوظائف في انضباط ودقة، لكن مع ذلك كان من بد أن يستعين القانون — وهو علم دقيق وخطير — بهذا الوعاء اللغوي، وهذا الوعاء يحتوي على مصطلحات، قد لا نقول مصطلحات قانونية، لكن مصطلحات استعان بها القانون في غير معناها المعتاد…، وقد روى “برتراند راسل” أنه عندما طلب ملك مصر إلى “إقليدس” أن يعلمه الهندسة في دروس قليلة ومبسطة ، كان رده الشهير : ” أنه لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات “، كما نزعم أنه لا وجود لطريق معبد نحو القانون!

فمصطلح العدالة وسلطان الإرادة والعقد الاجتماعي ومصطلح الالتزام وغيرها — وإن تم استقطابها في غير معناها الفلسفي — ماهي إلا مصطلحات استقطبها الفقه القانوني حين وظفها القانون بشكل مشفر مختلف عن معناها الأصلي، واستخدام المصطلحات اللغوية لتحديد معنى في القانون من البديهي أن تنطوي تحت مخاطر كيفية الأخذ بمعناه المقصود ..،أو مايسمى في الهيرمنيوطيقا (علم التأويل) قصد المؤلف، والقضاء (أقصد هنا محكمة القانون لا الواقع) باعتباره المفسر الأسمى للغة التشريع أو ينبغي له ذلك يعدو دوره سكين ذو حدين، إما ضبطه للمصطلحات القانونية المختلف بشأنها العمل القضائي من خلال توحيد الاجتهاد، أو جعل المصطلحات تحت أرضية هشة قابلة للانزلاقات والصدمات العنيفة إن سمح للاختلاف أن ينسل إليها، وفي هذه المعركة تكون ضحايا وآثارا ضارة.(les effets nèfaste). وطبيعة هذه الآثار التي قد تنتج عن اللغة لا يمكن أن تدرس داخل علم القانون وحده دون أن نستنجد بفلسفة القانون، كما أن دعوة فصل القانون عن الفلسفة هي كدعوة فصل الولد عن أمه…!

ولتفادي تلك الآثار يكون القاضي ملزم أن يعلم جيدا نية المشرع في استخدامه لتلك المصطلحات (الانكباب غير المفهوم على دراسة الأعمال التحضيرية) وأن يفكر بتفكيره وأن يقوم مقامه في تقليد إن هو أراد حقيقة استعمال معنى المصطلح…، ومع ذلك فإن اختلاف الأحكام القضائية وكثرة الطعون المعرضة للإلغاء والنقض قد يفسر مانحن بصدده، على أن ليس هناك لغة قانونية دقيقة مجمع على الأخذ بها…، وقد يعترضنا رأي بالقول أن الاختلاف يدور حول كيفية النظر للواقع وتكييف القاضي له..، نقول على أن واقع النازلة وحقيقتها ثابتة لاتحتمل الاختلاف وإلا كنا أمام حقيقتين لنازلة واحدة وهذا مستحيل، فيبقى أن الاختلاف في التكييف القانوني نزعم أنه قد يكون بناء على تلاعب اللغة القانونية بالمصطلحات في نفس طرح مارآه لودفيغ فينشتاين أعلاه !

والمختلف عليه في لغة القانون، نجد أن لغة الشراح والفقهاء تختلف أيضا عن لغة التشريع، وينبغي لهم ذلك، لأن الفقيه والشارح لا يسن القوانين، بل وظيفته تكمن في شرح لغة تلك القوانين وتهذيبها وإثارة مشكلاتها المفترضة التي يمكن أن تعترض العدالة في الواقع…، ومن لم يفهم القانون من كتب المصريين يصعب أن يفهمه من جهة أخرى، وهذا ليس دفاعا مستميتا عن ماخطته يمنى شراح مصر، وإنما أن هؤلاء بحق لا يقلدون المشرع في لغته، فقد درجت الكتابات عندهم أن جعلوا لهذه اللغة نزعة أدبية — وكيف لا وأن أراضيهم مازالت تنجب عمداء الأدب العربي — يهذبون بها مايستعصي على فهم طلبة القانون ودارسوه وممارسوه….، وقد يبقى الشخص طفلا في القانون إلى أن يقرأ لحلمي بهجت بدوي أصول الالتزامات أو الالتزام القضائي لتناغو أو مقال السنهوري في المعيار القانوني الذي هو أشد بأسا وتنكيلا على العقل القانوني..، وهو أبرز ما أنتجه السنهوري باعترافه، فالمصريون في دأبهم هذا أنهم لم يجعلوا إلى القانون طريقا ملكيا كما قال إقليدس أعلاه فيما رواه راسل، ولم يلحقوا التفاهة والازدراء بلغة القانون أو جعلوها جامدة صلبة يموت فيها كل ابداع حي وكل فكر متطور!

كما أن لغة مذكرات ومرافعات الدفاع والادعاء — وقد تدخل منها مذكرة محامينا أعلاه — قد تظهر بعض التمايز عن اللغات أعلاه، لأن مصطلح هذه المذكرات يجب أن يحتوي على حمولة الاقناع بالدرجة الأولى…، وإذا كانت فلسفة الدفاع تكمن في محاولة تشكيك القاضي في الحقائق وجعلها نسبية أمامه، ففلسفة الادعاء تنصب في جعلها ذات مصداقية في ذهنية القاضي إلى أبعد الحدود، وفي هذا المضمار يقف العائق الأساسي للأخلاق شامخ البنيان، بحيث قد تدخل اللغة في دائرة الاتهام كالجرم المقترف مادام أنها قد استعملت كوسيلة للتلاعب!

لكن لابد أن تكون هنالك مساحة مشتركة بين اللغات المعبرة عن القانون التي ذكرناها أعلاه، فالدارسين للقانون وملقنونه وطلبته، قد يفهمون بدون كبير عناء بلاغات الحكومة والمذكرات الوزارية، والمراسيم والأحكام القضائية ولغة الإجراءات…وغيرها من الأوراق القانونية، لكن هذه المساحة المشتركة حق لنا أن نتساءل عن نطاقها، ولذلك فحتى جهود الفقه وفلاسفة القانون في جعل تلك المساحة واسعة الاشتراك بين مختلف لسانيات القانون قد تكون محتشمة إلى حد الآن، لأن تساؤلا عميقا يعترضهم في ذلك، هو أصل اللغة القانونية ؟ أو إن زدنا تفصيلا قلنا من أين جاء القانون بلغته التي يخاطب بها عموم المخاطبين؟ وهل أقام القانون قاطعة ابستمولوجية مع اللسانيات الأخرى؟ وبناء على هاته التساؤلات نفضل أن نطلق على كل لغة مستعملة من أي عامل له علاقة بالقانون باللغة المعبرة عن القانون حفاظا على الصرامة الأكاديمية مادمنا لم يثبت لدينا أجوبة نسقية علمية على ماطرحناه أعلاه من تساؤل!

وقد لا نجيب عن الأسئلة التي طرحناها، ليس على أننا لا نمتلك أجوبة وإنما أن الحضارة أسست على السؤال لا الجواب…، وقد يكون طرح السؤال ليس المقصود منه انتظار جواب، ولكنه جواب في لباس سؤال..، وإذا كانت اللغة المعبرة عن القانون يجب أن تشمل مصطلحات محددة، فالقانوني ليس من وظيفته خلق المصطلحات كما يفعل الفيلسوف على حد تعبير جيل دولوز..، وقد نجد نحن القانونيون حرجا في ذلك، مادام يمكن للخبير أن يخلق مصطلحا تقنيا حين يعجز القانوني عن ذلك (أغلب القوانين الحديثة تشمل على مصطلحات تقنية، قانون الملكية الصناعية، قانون حرية الأسعار والمنافسة، قانون حماية المستهلك ...الخ )، والذين غردوا بأن القانون ميدان نخبة قد لا يبدو قولهم هذا متهافتا، إذا أصبح القانون وبحوثه الجامعية تحكمه شركات الخبراء كما قال آلان دونو في كتابه غير التافه ” نظام التفاهة“..، وحين أصبح القانون يحتاج إلى الكثير من الوسائط والمفسرين وأصحاب الخبرة، هنا أصبح ينسلخ عن المبادئ التي أسس عليها علمه، وأصبح يبتعد عن الانسان نتيجة معارك محتدمة لقوى تكون حلبتها اللجن الدائمة في الغرف التشريعية بدفع من الحكومات واللوبيات والعمالقة من الشركات!

قد لا نكذب ماقاله الان سوبيو في أن أصل الانسان فيه هو احترام القانون…، ولكن اللغة التي كان يتداول بها القانون قديما قد تكون غير محددة في قوالب تقنية كما الآن.، ومازال فيلسوفنا المتماسك طه عبد الرحمن يجلد ظهر الغرب من فكرة الانسان الآلة، وهذا الانسان هو نفسه الانسان القانوني المخاطب بقوالب لغوية، صارمة، نسقية، عنيدة، مستفزة!

اللغات المعبرة عن القانون

كمال المنوري

طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *