عن الإنسانية لنتحدث قليلا

هل ما يزال قلبي حيّا ؟

نعيش في عالم يُفني قدرتنا على الحب والعطاء والبذل اللا مشروط، ومن ثمّ يقتل فينا النقاء الفطري الذي يولد معنا أو ما نسمّيه “الإنسانية“. ذلك الجدار الذي يحول بيننا وبين طغياننا، ويذوب على أعتابه تنوع ألواننا وألسنتنا واختلاف انتماءاتنا.

وهذا المقال ما هو إلا وردة أزرعها بين أكوام الدمار، لبنة صغيرة أضيفها لهذا الجدار الآيل إلى الزوال والانهيار، وبقعة ضوء أسلّطها على ثقوبه وأماكن مرضه التي أحدثناها؛ لنتعاون على تفاديها معاً.

الإنسان لا يرى في الغالب الجوهرة المخبوءة في داخله.

لو أُعطيتُ مع قلبي الذي مُنحت عدة قلوب أخرى، لأنفقتها في حب الإنسان أكثر، في حبك أنت أكثر، وغيّرت في أركان وقوانين هذا الحب مسلوب الجوهر والمعنى الذي نتداوله على ألسنتنا كلما ألتقى أحدنا بالأخر.

يرمي الأخ أخاه بابتسامة باردة .. ميتة كطقس من طقوس الصباح الاعتيادية، يقول بها: صباح الخير.

“ألقي عليه السلام ثم أمضي ..

حاول أن لا يراك فترتاح من عبء السلام ..

لا تعتذر أنت أكبر من أن تخطئ فتعتذر ..

تجاهل ما عليك من حقوق تجاه من صنفتهم في رتبةٍ أدنى، وجالس أهل رتبتك”

هذا ما تخبرك به نفسك التي علّمتها أن الناس يتفاوتون في القدر والقيمة، وعلّمتها أن تحب وتكره بناءًا عليه.

ما الذي يدفع الواحد منا ليكره غيره أو ليعلو عليه؟ ما هو الدافع الخفي الذي يكمن وراء هذا ؟

هل هي المكانة الاجتماعية واعتباراتها؟ أم اللون؟ أم عراقة العرق والمنشأ، أم الحسد؟! أم أول خطيئة ارتكبناها؟

دوافع كثيرة، كثر مُدركوها وقلَّ مُتداركوها.

لقد هبطنا على هذا الكوكب الصغير،دون فوارق أو تفاوتات أو رتب، ودون تفضيل ولا رفعة بنسب أو حسب أو بمال وحسابات بنكية ممتلئة نملكها؛ كلَّما كثرت كبرتَ أمام وهمك، وفرضت على الناس طقوسَ تمجيدٍ إضافية لك، ووضعت نفسك بنفسك على عرش عالٍ من سراب.. حيث لا رعية ولا راع إلا الوهم والغرور والجهل.

وصَغُرَ الأخرون أمامك، وتهاوت أقدارهم وكراماتهم وأحلامهم على صخرةٍ صلد نسجتها في خيالك فاندثروا.

الكِبر والشعور الخُلَّبي بالعظمة أو التفوق العرقي ومن ثمّ التفرّد بالإنسانية وسلب الأخرين حقّ الحياة، كان الشرارة التي أشعلت نار حروب لم تنطفئ، إلا وقد أتت بالدمار والدم على البشر والحجر، والكبير والصغير بلا تمييز.

أفسدت الأرض وأتعبتها بالكثير من الركام والخراب يثقل كاهلها، وبالكثير من أجساد أبنائها تمضغهم في أمعائها، وهي تبكيهم بحرقة مع كلّ قطرة دم تسقط لترتطم بترابها منذ قطرة الدم الأولى.

فلو نطقت لصرخت في وجوهنا وسألت بأيّ حق نقتل ونُقتل ؟!

الفوارق الاجتماعية التي تنتج عن النظم الاقتصادية اليوم، تكوّم المال عند البعض وانعدامه عند الأخر، ثراء فاحش وفقر مدقع.. نهج يساهم في توسيع الردهة بين طبقات المجتمع، ويخلق فواصل وحواجز كثيرة تمنع تدفق الدم في عروق المجتمع على النحو السليم.

التدفق السليم؛هو التواصل المبني على الحب والاحترام والتعاضد والتعاون بين من يقطنون في ذات البقعة من الأرض، ويتشاركون الهواء والماء والتراب والثقافة، وبينهم وبين من يجاورن تلك البقة وبين من لا يجاورنها من أناسٍ ربما يختلفون عنا في بنية أجسامهم، وألوانهم، وألسنتهم وحتى في معتقداتهم عن الله والحياة والموت والبعث وغيره.ولكنهم يشكّلون معنا عائلة كبيرة واحدة، عائلة الإنسان والجنس الواحد والمصير المشترك.

معظم الناس لا يعرفون جوهر الحياة. فما الحياة وأنت لا تحترمني لأنني أختلف عنك لونًا أو فكرًا أو لغة؟ ما الحياة وأنت تسلبني إنسانيتي لتبيح دمي في الحرب المقبلة ؟!

ما الحياة وما تعني بدون نظرة حب حقيقية تتلقاها من أخ أو جار أو صديق، بلا أي أطماع خفية تنساب من تحتها ؟!

ما الحياة بدون ابتسامة ودّ وشوق تمنحك إياها عائلتك عند عودتك في كل مساء؟! وهي نابعة من اعتقادها بإحساسك المرهف بها وبقيمة وجودها في حياتك واعتمادك عليها.

ما الحياة بدون تقبّل الآخر بنقصه وكماله ؟! وما الميزة في أن تقبل الجميل فيه وترفض القبيح ؟!

كلّنا فُطرنا على حب الجمال بدون تكلُّف.. فأين البطولة؟

ما الحياة بدون “أسف” تخرج من قلبك اللئيم ثم تعبر قضبان شفتيك إذا أخطأت؟ .. تعبّر بها عن أسمى جوانبك وعواطفك، وما استُودعت في داخلك من جمال، تواسي بها خاطر من آذيته بطبعك الغليظ.

ما الحياة وما معناها وأنت لا تفكّر في أخيك الذي يشاركك بالدم والاسم والذاكرة؟! كيف نام؟ وأي شيء في انتظاره مع الغد، فضلاً عن أن تفكّر في مَن يشترك معك في جوهرك.. في إنسانيّتك.

ما الحياة وأين إنسانيّتك إذا لم تربت على كتف اليتيم بيد الأخ المشفق الحنون؟ وأنت على مشارف الأربعين.

ولم تحض على طعام المسكين، متبعًا أسمى ما في الوصايا الإلهية وأنت قد تجاوزت الخمسين.

ولم تشارك جارك الحزن والفرح والدهر بتقلباته وقد تجاورتما عمرا تجاور الجدران لا الإنسان.

ما الحياة وأين جمالها ؟! وأنت عند كل سوء فهم تنشئ خصومة تمدّها بالكبر والمكابرة، فتمدد عشرات السنين، وربّما تشتاح عمرك القصير.

وفي المقابل هل تُدعى حياة التي تحياها بدون كل ما ذكرته لك ؟!

إذن، تفقّد نفسك قارئي العزيز مع انتهاء هذا المقال ثمَّ اسألها: هل ما يزال قلبي حيّا ؟!

عن الإنسانية لنتحدث قليلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *