أفشوا الحب بينكم..

عن أساسياتِ الحبّ ومعانيه..

“من لا يملكُ الحب يخشى الشّتاء”.

محمود درويش

الحب … تلك الكلمة السحرية التي يتنازل لها القلب الشامخ من عليائه، وتتوَرّد لها الخدود وتخجل، وتتلون بها الدنيا بألوان الفرح، هو الذي ألهمَ المبدعين فكُتبت القصائد ولحّنت الأغاني وكُتبت الروايات ورُسمت اللوحات، وهو الذي لم يسلم أحد من أفضاله ونادرٌ من نجا من خيباته، عليه أُسِيلَ الحبر فلم يتفق على تعريفه الكتّاب ولا المفكرون. يريد الإنسان حبّاً يواري به فراغ قلبه. وفي حياته يسعى بين قلبٍ وآخر بحثا عمّن يبادله شعورًا ساميا يزيّن وجوده، وبحثا عن كتف يسند عليه وهنَه، وعن حضن يرتمي إليه حين تصبح الحياة في عينيه مُوحِشة.

الحب .. ذاك الشعور الإنساني الذي يمنح الحياة ألوان الربيع، ويرقص به القلب فرحا ويصبح للوجود في حضرته معنى. يجمع الذكر والأنثى، الأخ والأخت، الأم والطفل، الأب والطفل … وعلى وجه الدقة يمكن القول: يجمع الإنسان بالإنسان، ويجمع العبد وربه، والمخلوق بمخلوق …

إذن، كيف يرى إريك فروم هذا الشعور الذي سمّاه فنًّا؟
هناك من يعتبر الحب إحساسا باعثا على اللذة وأن الصدفة والحظ من ترجع إليهما مسألة عيش وممارسة هذا الإحساس.
وهناك من يرى أن الحب فنٌّ، علينا أن ننطلق لتعلمه من الطريقة نفسها التي ننطلق بها لنتعلم بها الموسيقى والرسم والنجارة والهندسة… فلكي نتعلم هذه الأشياء علينا الإلمام بالنظرية أولا ثم السيطرة على الممارسة.
وإذا كان الفشل في هذا الفن هو الغالب في مجتمع اليوم، فإن ذلك يرجع بالأساس إلى التمسك بالرأي الأول على حساب الثاني، ذلك أن هذا الشعور السامي الذي يجمع البشرية بجميع أصنافها، وباختلاف أجيالها، يحتاج الإلمام بقواعده النظرية، ومن ثمة الانطلاق لممارسته بالشكل الذي يليق به.

يولد الطفل ويتعلق بالأم، هذا التعلق الذي يبدأ من الرحم عندما لا تزال الأم والطفل شيئا واحدا، هنا تكون الأم بالنسبة للطفل هي مصدر كل الحاجيات: هي الحياة. ثم يدرك أشياء كثيرة، فتصبح فكرته أن الأم تحبه لوجوده، وليس لأنه حقق شرطا خاصا، وتزرع فيه حب الحياة، ومع مرور السنوات تفقد علاقة الطفل بالأم بعضا من دلالتها، وتكتسب العلاقة بالأب أهمية كبيرة.
فالأم هي البيت الذي أتينا منه، والأب هو القطب الآخر للوجود الإنساني، هو عالم الفكر والصناعة والنظام؛ هكذا فالطفل يحتاج حب الأم ورعايتها لجعله آمنا في الحياة، ويحتاج إلى حب الأب وإرشاده وسلطته.

إن من أساسيات الحب مَقدِرة المرء على العطاء وليس التلقي، ذلك أن العطاء في حد ذاته، كما سماه إريك فروم، “فرح رفيع”، أن يحمل الإنسان شيئا من حياته إلى حياة الآخر، شيئا من شغفه وعِلمه ومرحه وفرحه وحزنه، شيئا من نفسه ليعزز به وجود غيره، وهو بذلك لا يعطي لكي يتلقى، لكنه يعطي لأن العطاء بالنسبة له فرح. هكذا يتشارك اثنان في ولادة الحب.
وإلى جانب العطاء، تبرز الرعاية كأساس ينبني عليه الحب، يعطي فروم مثالا عن الرعاية بعلاقة الأم بطفلها، فنحن نعرف مقدار حبها بمقدار رعايتها له، وبعلاقة الإنسان بالزَّهرة، فهو يحبها ما دام يَسْقيها.. هنا يصبح الحب هو الاهتمام الفعال بنمو من نحب، وحيث ينقص الاهتمام لا يكون هناك حب!
وإذا كان العطاء والرعاية مهمين في الحب، فإن للمسؤولية أيضا أهمية بالغة، ولا تعني المسؤولية في الحب شيئا مفروضا، بل إنها فعلٌ إراديّ تماما، يعني استجابة طرف لاحتياجات طرف آخر.
ولكي لا تتحول المسؤولية إلى تَمَلُّك، يجب أن يسود الاحترام في الحب، وليس الاحترام هنا خوفا وخشية، بل القدرة على رؤية الشخص كما هو واحترام فردانيته وتفرّده، هذا الاحترام الذي تثمّنه معرفة الآخر على نحو أعمق، والقدرة على اكتشاف خباياه النفسية.

صورة تعبيرية

وإذا أردنا الحديث عن أكثر أنواع الحب الذي يجمع بين كل هذه العناصر، فسنتحدّث، حسب فروم، عن الحب الأخوي. فهو نوع الحب الذي يتضمن الحس بالمسؤولية والرعاية والاحترام والمعرفة العميقة بالآخر. لأنه حب بين اثنين متساويَيْن. هكذا إذا يرى فروم أن الرعاية والمسؤولية عَمْياوَانِ إنْ لم ترشِدهُما المعرفة، وستكون المعرفة خواءً إنْ لم تكُن بدافع الاهتمام.

هكذا، إذاً، يصبح الحب شعورا ينطلق من الذات نحو الآخر، ينقل جزءا من الإنسان إلى نظيره، به تحلو الحياة، وبانكساره تنكسر الذات، ويتحول المرء إلى كومة حزن.

اقرأ أيــضاً على زوايا:

هكذا هو الحب … الحب الذي قال عنه جلال الدين الرومي: «ما لمس الحب شيئاً إلا وجعله مقدّسا» وقال عنه ابن عربي بأنه «موت صغير». الحب الذي جعل دوستويفسكي يشعر أنه عاش عصراً كاملا في سبع سنوات قضاها مع زوجته الأولى قبل وفاتها (لقد عشتُ معها عصرا كاملا…). هو الحب الذي جعل فنسنت فان جوخ يرفض الحياة ويقرر وضع حد لها بعد أن كتب رسالةً لأخيه يقول فيها: « لن أعيش دون حب» … فان جوخ الذي قال عنه فرويد بعد ذلك « كان من الممكن أن يعيش أكثر، لو أنه وجد الحب».
الحب الذي جعل لوسالومي تخترق حياة فيلسوف إرادة القوة ليقول لها: «من أي نجم سقَطَ أحدُنا على الآخر».
الحب الذي قالت عنه حنا أرندت: «إنه لا شيء نحو قلب العالم النابض مؤكداً أكثر من الحب». ‏الحب الذي قال عنه أفلاطون: «يجعلنا الحُب مكتملين» وقالت عنه دي بوفوار: «يُتيح الحب لنا الوصول إلى أبعد من أنفسنا» …

الحب الذي قيل عنه ويقال وسيقال… وكل قائل لا يقول إلا تجربته المتفردة مع هذا الشعور الإنساني السامي.
هو نفسُه الحب الذي جرّ العقاد وجبران إلى الجُحر عَيْنه: قلب مَي زيادة. وجرَّ أنسي الحاج وكنفاني إلى القلب نفسه، كما تزعم صاحبته، غادة السمان.

ضحايا الحب كُثر، لكنه شعورٌ لا مفر منه.. قال درويش: «من لا يملك الحب يخشى الشتاء»؛ وأنا أقول: من لا يملك الحب يخشى الحياة.. بالحب تُحارب بشاعةُ العالم؛ فأفشوا الحبّ بينكم!

أفشوا الحب بينكم..

يونس أوعلي

كاتب ومدون.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *