السلطة الأبوية وأثرها على حياة الأفراد

نبذة عن تربية الأبناء في مجتمعنا العربي

ثمة مجموعة من التحديات التي قد تواجه الآباء في العملية التربوية، من بينها نقل وتمرير المسلمات والمفاهيم والقيم التي حملوها على مدار سنوات حياتهم، هذا المسعى الذاتي الذي يقوم به الأهل من واقع مسؤوليتهم التربوية تجاه الأبناء، هذه المسؤولية التي لا تتعرض لأي معارضة أو انقطاع، ولا بوضع له الحدود ولا سن قواعد وقوانين واضحة ومحدودة؛ فلا أحد مثلا يستطيع أن يقول للأب “ ليس مسموحا لك أن تربي طفلك على مبدأ معين أو قضية أو ايديولوجية معينة ” .

يرى غالبية الأباء أن امتلاكهم للحاضنة البيولوجية والإجتماعية كفيلة بمنحهم كل التسهيلات الغير المشروطة لتنشئة أطفالهم على المعتقدات والقضايا التي يؤمنون بها؛ لربما هي الأفضل والأنسب والأكثر نقاءا من وجهة نظرهم لكن أحيانا تحمل وجها من التسلط التربوي والعنف الرمزي، لتصبح العملية التربوية جزءا من منظومة يمارس فيها الترويض والقهر لا التحرير، فبدل أن تتعهد تربية الأبناء وتأخذ بأيديهم إلى صورتهم الإنسانية غير أنه ما يحصل هو فقدان قدرتهم على التعرف عن جوهرهم الإنساني الذي يبحثون عنه، حيث لا يمكن للأبناء اختيار القضايا التي تعبر عن ذواتهم ورؤيتهم للأشياء فدوما يجدون ذواتهم خاضعين لمجموعة من الإكراهات الفكرية؛ تذوي بهم بعيدا عن الحس النقدي والعقلاني فبدل أن تمنح هذه المعتقدات الحرية المرغوبة، تبقى تكبل الأبناء وتأخذهم في دوامة وصراع غير متناه.

فالتسلط التربوي الذي يقتات على السلطة الأبوية يساهم بشكل أو بأخر في تزييف الواقع، وتشويه الوعي وقتل الروح النقدية، فالطاعة التي يأتي بها التسلط تعمل على شل الإبداع وتحرم الفكر من أن يكون ناقدا، وبهذا فإن الكثير من القضايا تفرض قداستها تحت مظلة هذه السلطة ويصبح تجاوزها أو التخلي عنها أمرا مرفوضا وغير متاح.

فأحيانا تصطدم السلطة الأبوية بطموح الفتيات، أي سلطة الأب وتحكمه في سلوك ابنته ودراستها، ثم عملها، إلى رسم مستقبل مهني فاشل لها، وحياة بائسة، مايعرضها لمعاناة كبيرة، كما يفضي أسلوب التعامل الذكوري الذي ينتهجه بعض الأباء في المجتمعات العربية، إلى التأثير سلبا على الصحة النفسية والجسدية لبناتهم، فالأب هو الحلقة الأقوى في دائرة الأسرة الإجتماعية، وله دور كبير في بناء شخصية الفتاة، بالطبع هنالك أباء متفهمون لوضع بناتهم ويمنحونهن القدر اللازم من حرية الإختيار؛ ومع هذا نرى نسبة كبيرة من الإباء المتسلطين منهم من تحركه العاطفة الأبوية فيضر بابنته وهو يتخيل أنه يفعل الصالح لها، ومنهم من تحركه دوافع سلطوية ذكورية بحتة، وفي الحالتين تبقى الإبنة هي الخاسرة الكبرى.

وهنا يفترض أن نتساءل،هل الأباء يأخذون متغير الحداثة وتجلياته بعين الإعتبار عند تربية الأبناء، هل هناك محاولات لإدراج ” الحداثة التربوية” على سبيل المثال في التنشئة الإجتماعية؟
فإن شئنا أن نستحضر مقولة علي رضي الله عنه ” لاتكرهوا أولادكم على أثاركم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكمفكيف يمكننا فهمها وتحليلها في هذا السياق؟
ماقامت به الحداثة، هو دفع الإنسان نحو تغيير مواقفه من الحياة وإحداث تحولات جوهرية عميقة في بنية التصورات السائدة في عالمه ومجتمعه. بالإرتكاز على فكرتين أساسيتين؛ الثورة ضد التقاليد ومركزية العقل والتي تنطلق على عجلة الفردانية والعقلانية والنزعة العلمية والقيم والديموقراطية وفي خطوة نحو الرفاه والسيطرة وتحقيق الطموحات الإنسانية.

فالحداثة التربوية ترمي في جوهرها لإستخدام الأسس التي تقوم عليها الحداثة ولكن في العملية التربوية من خلال تنمية عقلية وعلمية ديمقراطية في الأبناء، تعتمد على مبدأ الإبتكار ومخاطبة العقل وليست الذاكرة وتنمية حواسهم بالتركيز على الإنسان الكامن فيهم، وهذا النوع من التربية يقوم على تحرير الأب من حصار الأوهام والخرافات والقيم الساكنة التي ورثها من عالم التقاليد، ولتنقل به إلى عالم ينضج بالعقلانية والتصورات العلمية.

فالحداثة التربوية تتطلب من الأباء أن يعيدوا النظر في القضايا التي يمريرونها لأبنائهم، لأنه ستأتي هذه اللحظة التي يجدون فيها أنهم بحاجة لتفكيك كل ما وقع في حقيبتهم الفكرية، وسيحاصرون سلسلة من الأسئلة الصغيرة والكبيرة، التي ستسبب إرباكا في علاقتهم مع الأبناء وستكون مصدر قلق وإحراج يهز شيئا من “ عملقة ” الأفكار التي يبدو مشهدا انتهائها أيسر من حبكة بداياتها في هذا العالم السائل.

” فإن التربية إذا كانت فنا فإن هذا الفن لا يعمل في مادة جامدة كفن النحت بل تعمل في مادة حية تنطوي على مبدأ نموها ” أو كما يقول جان جاك روسو ” ليس على الطفل أن يتعلم بل عليه أن يكتشف الحقائق بنفسه ” .
وأخيرا وليس آخرا فالتربية العربية ساهمت للأسف في تكريس العقلية التقليدية عبر قيم التسلط والجمود والتي تراجعت أمامها العقلية العلمية في مختلف حقول الوجود الإنساني.

السلطة الأبوية وأثرها على حياة الأفراد

إنصاف الناتي

طالبة في شعبة علم الاجتماع

تعليق واحد

  1. محللة من النوع الجيد . مقال رصين يثبث جدراتك في التحليل و اتمنى لك حضا موفقا حبيبتي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *