ما زال “الابن الضال” مرغما على السكوت

قراءة في ملحمة سينمائية تحكي فصولا من تاريخ مصر

من الواضح، و بإجماعٍ نقدي، أن الراحل “يوسف شاهين” استخدم في ملحمته “عودة الابن الضال“، الرموز كأدوات فنية ليُحاسِب أخطاء النظام الناصري (نسبةً إلى جمال عبد الناصر) التي أحبطت جيلًا من الشباب الحالمين بالتغيير.

ظاهرياً، الفيلم يكشف من خلال رواية من الإرث الديني، سطوةَ مجتمعِ سادَهُ القمع وانعدامُ الحريات، يكشف جراح الماضي وانهيار الحلم الناصري أمام فشل الاشتراكية وسطوة الطبقة الجَديدة التي صَعَدت لتلتهمَ كل شيء. وقد حقق، بذلك، عملاً سينمائياً خالصاً، يصعب حصره في إطار تصنيف نوعي واحد، حيث نجده ينتقل ويتأرجح بسلاسة بين الكوميديا الموسيقية، والرومانسية، والدراما العائلية والفيلم السياسي وسينما النقد الاجتماعي، بل حتى سينما المغامرة والسينما التعليمية…

تفيد الرواية المسيحية أن الابن الأصغر خرج عن بيت أبيه بعد أن أصرّ على الحصول على نصيبه من الثروة، وغادرَ الأسرة وذهب حيث فقد كل شيء، ثم عاش حياة قاسية مضنية فقرر العودة إلى كنف أبيه، معترفاً بخطئه، معلناً توبته، طالبا العفو والمغفرة، فيفرح الأب ويذبح عجلا ويحتفل مع أهل البلدة بعودته. أما الابن الأكبر الذي بقي وضحّى وعاش في كنف والده فهو يغضب من أبيه لاحتفائه بمن عصى وخالف، لكن الأب يقول له إن أخاك هذا “كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوُجد”.

يجعل الفيلم “توبة العائد” ليست نتيجة خروجه على “الأب”، بل لما تعرض له من نظام سياسي متجبر، عقابا على جريمة لم يرتكبها، بل عن دعوته التي آمن بها رغم أنها لا تنفصل عن نفس شعارات النظام.

الابن الضال العائد هو “علي” (أدى دوره الممثل أحمد محرز) الذي لم يكمل دراسته وذهب أولا للعمل في السد العالي، ثم انتقل إلى القاهرة يحاول أن يفهم ويتعلم من الناس، ويقود الآخرين ليبني “مدنه في السحاب”.  لقد كان مؤمنا أشد الإيمان بـ”الزعيم”، يصدق دعاواه في إقامة العدل وإنصاف الفقراء، يرفع شعارات الثورة والتغيير، لكنه يتعرض للاعتقال والتعذيب.
لقد سقط في إغراء الطبقة الجديدة الفاسدة وتزوج من ابنة مقاول سرعان ما تسبب في أزمته وانهيار أحلامه، وما انهيار العمارة كما نرى في الفيلم سوى رمز للانهيار الأكبر الذي وقع في العام 1967.

يُجسّد “علي” جيلا كاملا من اليسار (الناصري) بكل طموحاته وأحلامه وشعاراته وتردده وعجزه عن منع صعود الطبقة الجديدة بعد أن استخدم في تغييب الوعي بالشعارات، وتُرك الباب مفتوحا على مصراعيه لنمو “البيروقراطية المتوحشة” التي التهمت كل شيء. ولم يخرج علي من المعتقل إلا بعد أن كتب خطابا إلى زعيمه عبد الناصر، لكنه يخرج في نفس يوم جنازة الزعيم.

بعد 12 عامًا من الغياب، يعود “علي” إلى قريته “ميت شابورة” محطَّماً عاجزا مهزوما، لينضم مجدداً إلى عائلته: والده “محمد المدبولي” (محمود المليجي) ووالدته “رتيبة” (هدى سلطان) وشقيقه “طُلبة” (شكري سرحان)، و”فاطمة” ابنة خالته وشقيقة زوجة طُلبة المتوفاة “عائشة”. لكن هناك أيضا إبراهيم، ابن طلبة، الذي حصل على الثانوية العامة ويرغب في السفر لدراسة علوم الفضاء في الخارج، وقد استمع طويلا عن عمه البطل نصير الفقراء والمظلومين، وظل في انتظاره طويلا.
تجمع العائلة في داخلها تناقضات الطبقة الوسطى كلها. إنها تمتلك الأرض والحظيرة والمعصرة (المصنع) ودار السينما والمقهى، أي وسائل الإنتاج والترفيه.  و”طُلبة” الذي كان في الأصل ضابطا من مجموعة 23 يوليو 1952، أًصبح رجل العائلة القوي بعد أن استولى على أرض زوجته الراحلة وشقيقتها، كما استولى على المعصرة من صاحبها “الخواجة كركور” الذي فر خارج البلاد في خضم حمى التمصير، لكن “طُلبة” لم يدخل أي إصلاح على آلات المصنع المهترئة التي ظلت تعمل منذ 25 عاما.

يستغل طُلبة عمال المصنع أبشع استغلال، ويبقيهم من دون عقود أو ضمانات وتأمينات ويهدد بطردهم، لكن “حَسّونة” (سيد علي كويرات) الذي ترتبط ابنته “تفيدة” (ماجدة الرومي) بعلاقة حب مع إبراهيم ابنه هو الذي يتصدى له، وترتبط زوجة حسونة “لواحظ” بصداقة مع أسرة المدبولي وخاصة الأب وفاطمة.
يُعبّر محمد المدبولي عن الجيل الأول، جيل الحالمين القدامى، فقد تلقى قسطًا من التعليم في فرنسا، واقترب من عالم الفنون هناك، لكنه عاد ليجد نفسه عاجزا عن التأقلم مع الواقع الجديد القائم في المجتمع فيهرب إلى المخدرات، ولكن دون أن يفقد حسه الإنساني النبيل وتعاطفه مع العامل حسونة وزوجته رغم الفارق الطبقي بين الأسرتين.

ملصق الفيلم (غوغل)

يستغل “طُلبة” حرب الاستنزاف ويسعى لعقد صفقة مع الجيش لتوريد بعض الاحتياجات للوحدات العسكرية الموجودة قرب “ميت شابورة”، وبعد تغير الظروف السياسية وتبني سياسة الانفتاح يستورد آلات جديدة للمعصرة تمهيدا للتخلص من عدد كبير من العمال.
أما إبراهيم فهو يأمل أن يساعده “علي” في إقناع والده بالموافقة على سفره، إلا أن “علي” يعود مقهورا كسيرا، لا يتعرف على فاطمة حبيبته التي ظلت تنتظره 12 عاما دون أن تخلع ملابس الحداد إلى أن يعود ويتزوجها. لقد تعرضت أثناء غيابه للاغتصاب من طرف شقيقه “طُلبة” الذي أرادها لنفسه بعد وفاة زوجته (شقيقتها عائشة)، ولكن الأم “رتيبة” تعد الآن لتزويج علي من فاطمة لكي تبقي على الأرض والثروة بين أيدي عائلة مدبولي. “علي” كان البطل المنتظر بالنسبة لفاطمة وإبراهيم وعمال المعصرة الذين ينتظرون أن ينظمهم ويقودهم في مواجهة “طُلبة” الظالم.

أما “علي”، فينسحب بعد عودته مباشرة، إلى غرفته يبكي بمرارة ثم يرتمي في أحضان أمه التي تمثل النمط الإقطاعي القديم، ويطلب منها أن توجهه وتختار له. ولكنه بوعيه الطبقي، يرضخ من صبيحة اليوم التالي لتعليمات شقيقه “طُلبة” الذي يسحبه من يده ويجلسه فوق كرسي مدير العمال يراقبهم ويحاسبهم بعد أن كان نصيرا لهم قبل سفره. ولا يملك “علي” ما يقدمه لهم سوى عبارته المضحكة “شوية صبر.. شوية وقت.. شوية مُسايَسة”.

يقدم الفيلم صورة مشرقة لأسرة حسونة التي تنتمي للطبقة العاملة: حسونة وزوجته وابنته؛ العلاقة بينهم جميعا علاقة حب ووُدٍّ وتفاهم، علاقة تتميز بالبساطة والتلقائية، يعيشون في بيت في منطقة ريفية مفتوحة، لا يخجل الزوج من مداعبة زوجته وممارسة الحب معها في ضوء النهار، على النقيض من عائلة المدبولي المفككة التي ينعزل كل فرد فيها ويقبع في الظلام: فاطمة تتحسس جسدها وتتشمم ملابس علي، طُلبة يختلي بنفسه في ظلام قاعة السينما، يشاهد أفلام العنف والجنس وحيدا في الليل، محمد المدبولي يهرب بعيدا في الصحراء ليغرق نفسه في غيبوبة الخمر والمخدر، يسترجع ذكريات الماضي ويلعن الصحراء متسائلا: لماذا أصبحت جافة رغم كل ما سال فيها من دماء؟ “ناشفة.. جافة.. زي قلتها.. زيي أنا تمام. أنا كمان زي قلتي.. أنا وجيلي خلينا الصحرا تاكلنا”.
بعد أن يصب غضبه على الصحراء وعلى جيله يلتفت ليرى “عليّاً” ينصت إليه. يمسك المدبولي بالعصا ويضرب على ساقي علي الذي يقفز في الهواء متفاديا الضربة مرة بعد مرة والأب يردد: إنت كلب جاهل.. ما استحملش يكمل دراسته.. إنت كلب”. يجثو “علي” ويحفر في الأرض بيديه وهو ينبح ككلب مرددا “أنا كلب.. أنا كلب”. ويواصل الأب مونولوجه: 800 مليون صيني اتصرفوا لوحدهم. وإنت ليه ما انتاش صيني؟
يضع العصا بين أنفه وأنف علي، ثم يدور الاثنان والعصا مرفوعة تفصل بينهما بينما تدور حولهما الكاميرا، ويستمر المدبولي في حديثه. تتوقف الحركة ثم في لقطة عامة نشاهد في عمق الصحراء “عليا” يقف صغيرا في عمق الكادر بينما والده على يسار الصورة والمسافة بينهما شاسعة. يصوب المدبولي العصا تجاه علي وفي اللقطة التالية مباشرة نرى العصا وقد أصبحت على مسافة قريبة تفصل بينهما، ويبدأ الاثنان في التحرك حركة دائرية بينما العصا ترتكز الآن على الأرض والاثنان يمسكان بها وهما يدوران حولها. وفي اللقطة الأخيرة نراهما من بعيد وقد أصبحا جسدين ضئيلين في الصحراء.

التناقضات الكامنة داخل هذه العائلة تؤدي بالضرورة إلى انفجارها على نفسها من الداخل. حيث تصل الميلودراما إلى ذروتها في مشهد المذبحة الأخيرة حيث يقتل الأخ أخاه، بعد اكتشافه أنه اغتصب في غيابه، كما تقتل الأم وفاطمة ويصاب الأب، ثم رحيل إبراهيم مع تفيدة في اتجاه الأفق، والجد يخبرهما من بعيد “اُهْرُبا!” …

رغم أن شخصيات الفيلم لها دلالة رمزية في العمق، قد يتناسى المُشاهد ذلك لأن الملحمة تضعنا أمام شخصيات من لحم ودم، بمشاعرها و فكرها طموحاتها و أحلامها… لكن مع نهاية الفيلم و اتضاح الرسالة، نفهم أن “فاطمة” التي تعرضت للاغتصاب غلى يد طلبة ترمز إلى مصر، و أن الإقطاعي عديم الضمير “طُلبة” يرمز، مواربة، إلى حكم جمال عبدالناصر، فيما يرمز “علي” إلى القوى التي كانت مرغمة على السكوت على رغم إيمانها بالثورة.

بعد نجاح الثورة في “إسقاط نظام حسني مبارك”، قبل عشر سنوات، كتب مقال في “DW عربية” الألمانية، يتساءل هل سيكون مصير الثورة المصرية كما تنبّأ يوسف شاهين في “عودة الابن الضال“؟

يبدو أن شاهين لم يطرح تنبؤاً لمستقبل مصر، بقدر ما عرَض أطروحة صالحة لكل سياق، يتضمن مُعطى قيام ثورة، وصعود نظام ديكتاتوري ضيق الأفق أكثر من النظام الذي سبقه، لتكون النتيجة انكسار جيل بأكمله… وفَرَضاً أن شاهين تنبأ بالمستقبل فعلا، وإنْ كانت نهاية الفيلم متفائلة نسبيا، علّق فيها المخرج العالمي آماله على الجيل الصاعد آنذاك، فإن التنبؤ نجح فعلا، وإنّ التاريخ أعاد نفسه، جاءت ثورة جديدة، فانقلاب عسكري، ليصعَد دكتاتور جديد، و الكل يصفق… و”علي” المسكين مرغم على السكوت.

ما زال الابن الضال مرغما على السكوت

Exit mobile version