الثقافة الجماهيرية خاضعة لقانون السوق.. “روتيني اليومي” نموذجًا

كيف تصنَع "السوشال ميديا" أذواق الجمهور؟

يمكن القول إنّ الثقافة الجماهيرية هي كل التعبيرات والمواد الثقافية التي تنشرها وسائل الإعلام الجماهيري. إنّ الرسائل الاتصالية التي تبثّها هي رسائل غير موجَّهة إلى طبقة محددة ولا إلى مستوى تعليمي وثقافي محدد، بل هي موجهة إلى عموم الجماهير.

إن هذه المواد المقدمة للمتلقي تخضع هي الأخرى لقانون العرض والطلب؛ وبالتالي أصبحنا نتحدث عن الصناعات الثقافية والسلع الثقافية التي تخضع لقواعد السوق. إذن يصير السؤال المطروح: هل الجماهير هي التي تفرض على وسائل إنتاج الثقافة الجماهيرية نمط معين من الثقافة؟ أم أن هذه الثقافة المصنّعة مفروضة على الجماهير؟

إنّ ما يُعرف في علوم الاقتصاد بـ “قانون السوق” هو ما جعل من وسائل الاتصال الجماهيري تبث محتوى أقل ما يمكن وصفه به هو أنه “هابط وسطحي وتافه”، موجَّهٌ لاستهلاك المتعة المؤقتة والزّائلة. ولعل ظاهرة ما عُرِفَ بـ فيديوهات “روتيني اليومي” نموذجٌ لمحتوى يسهم في خفض مستوى الذّوْق وإفساد الأخلاق والقيام بسلوك غير مقبول اجتماعياً. بما أن الثقافة أصبحت سلعة، أصبح بذلك الإنسان يبيع كرامته واعتُبِرت المرأة كـ”جسد” وكـ”بضاعة” تُدرّ دخلًا على صاحبها، وأصبحت فئة المراهقين والشباب زبائنَ يتمّ استهداف مكبوتاتهم وإثارة مشاعرهم لجني الأرباح، لأن كل ما يشكل “طابو” اجتماعي يصبح مرغوب فيه.

لقد أصبح “روتيني اليومي” نوعا من “الإباحية الجديدة” بتعبير أستاذ علم الاجتماع سعيد بنيس، يستهدف الشباب و المراهقين باعتبارهم الفئة الحساسة، التي تقبل كل ما هو معروض ووَافدٌ إليها دون أدنى مقاومة.

فحسب رُوّاد مدرسة فرانكفورت، الثقافة ما هي إلا صناعة وهي الفكرة التي دافع عنها كل من أدورنو وهوركهايمر في كتابهما “جدلية التنوير“، حيت يَرَوْن أنها صناعة هدفُها صناعة ثقافة جماهيرية عن طريق الأفلام و الصحف و غيرها، و يرى مُمثّلو هذا الاتجاه أن انتشار صناعة الثقافة من شأنها أن تُقوّضَ قدرة الأفراد على التفكير النقدي المستقل، مما يؤدي إلى اضمحلال الفنون الإبداعية، و حصر انتشارها و توزيعها في ترويج منتجات تجارية، تتم فيها المتاجرة بجوانب منتقاة من التراث الفني.

إنّ ما تقدمه وسائل الاتصال بالتالي هو عبارة عن أعمال وضيعة أو تشويه للأعمال الراقية والنقية هدفها إلهاء الناس عن البحث عن الحقيقة.

إن الثقافة الجماهيرية تُنتج الاغتراب والاختراق الثقافي. إنها تخنُق الوعي الجمعي، وذلك لأنها مُسَكِّنَةٌ من كثرة مُغالاتها في التفاهة والسطحية ونشر قيم فاسدة للمجتمع و للفرد؛ إنها -أيضاً- تمارس عنفًا رمزيا على الزبناء والمستهلكين؛ عنفٌ لطيف غير مادي وغير مَرئي بالنسبة لضحاياه، كما وصفه بيير بورديو في كتاباته.

لقد حان الوقت لدقّ ناقوس الخطر، لأن الصناعات والسلع الثقافية تمارس عملية اختراق على الشباب لضرب الهوية واقتلاعها من جذورها واستبدالها بثقافة مصنَّعة استهلاكية، الهدفُ منها تنميط الثقافة الفرعية المحلية الخاصة بالشباب، و تغيير ما يمكن تغييره من آراء ومعتقدات وقيم وأخلاق وآداب وعادات وتقاليد أي تغيير ثقافي شامل، بواسطة وسائل التواصل التكنولوجي المتاحةِ لعموم الشباب والمتميّزَةِ بسهولةِ الولوج؛ لا سِيَما أن هذه الوسائل أصبح تأثيرها أساسيا في عملية التنشئة الاجتماعية.

إنني لستُ ضد الثقافة الجماهيرية، لكنني ضدّ تَسَيُّد الظواهر الثقافية المنحطَّة التي تنشر الرذيلة والتفاهة، ونحن كمستهلكين مسؤولونَ أيضًا لكون الثقافة خاضعة لقانون السوق كما أبرزْنَا؛ وبالتالي نساهم في نشر هذه الثقافة عبر تشجيعها وزيادة الطلب عليها، لذا علينا أن نغيّر من استهلاكنا، ونشجع المحتوى الثقافي الحقيقي الهادف (التعليم، أغاني ملتزمة هادفة، نقاشات سياسية…) ليتم عرضها بَدَلَ عرض التفاهات.

أخيـراً؛ يجب علينا تشجيع ثقافة القراءة والتعليم وبثها في المجتمع عبر وسائل التنشئة الاجتماعية، بَدَلَ تشجيع ثقافة الرذيلة والتفاهة والانحطاط الأخلاقي.

إلياس سعيد

الثقافة الجماهيرية خاضعة لقانون السوق.. “روتيني اليومي” نموذجًا

Exit mobile version