دعوة لإقامة عزاء

كيف تعيش مصيبتك حدَّ الاكتفاء والشفاء ؟

ما يزعجني أكثر هو ليس الكم الهائل من التعاسة التي تتزاحم لتجد مكاناً لكي تستطيع التسرب منه إلى أيامنا. لكن ما يزعجني هو أن هذا التعب الهائل يتراكم يوما بعد يوم، بدون أن يتجاوزنا أو يغادر بدون رجعة.

سميّة الطالبي

لهذا، أعددتُ جلسة لدراسة الأمر ولكشف السر، برئاسةِ جَمْع من ذلك الكم الهائل من التعاسة، ويحضُرها بعض التعيسِينَ المحمَّلينَ بسنينٍ طويلة من التعب والإرهاق والرافضين كل الرفض أن يتم الإدلاء بأسمائهم خوفاً من أن ينساب جمع جديد من التعاسة لهم بعد سماع أقوالهم. لهذا إنْ كنتَ/تِ تقرأ(ينَ) نفسكَ/كِ في هذه الكلمات أسفله، أحرق الرسالة بسرعة أو أرسلها لعشرة أشخاص لكي لا تصيبك التعاسة.

يا تعيسًا يقرأ هنا، بعد جلسة دامت لمدة طويلة، خرجَ الجَمْعُ من المُتعبِينَ أعلاه، بما يلي:

  • أعظمُ أخطائنا تكمن بأننا لا نُقيم عزاءً لائقا بما يحصل، فلا نمكث بعيدًا لوحدنا، و هنا يمكث الخلل. فعدم تواجد مكان حيث يمكننا الاختباء في السرير ليلَ نهار، و يمكننا فيه السهر طوعا مع الأرق ليلا، والنوم حينما يستيقظ بعدها كل العالم، بدون أن نحتاج لنختلق عذرا لأحد، فقط لا أحد. مكانٌ حيث نختبئ فيه وحدنا فنصنع عزاءً لائقاً بمصيبتنا، هذا هو الخلل.

عدمُ تواجد مكانٍ للنحيب، مكان حيث يمكن فيه طلب الطعام بدون تناوله، وتفضيل النوم بدون أن ننام، مكان حيث نبكي فيه بصوت و بدون حاجة لخنق الأنفاس وبدون خوف من أن يسمعنا أحد، مكانٌ لنا وحدنا حيث يمكننا فيه الصوم عن الكلام. مكان حيث يمكننا أن نرتدي الملابسَ نفسَها لأسبوع، مكان حيث يمكننا فيه النوم على الأرض الباردة بدلا من السرير، مكان حيث لا صوت فيه سوى صوت الأفكار التي تجول في داخلنا.

المكان حيث يتم إقامة العزاء هو أهم القرارات التي تتسبب في مكوث ذلك التعب الهائل فوق أكتافنا، فنحني اليوم بعد اليوم كما لو أننا نُعَجِزُ قبل الوقت، بينما التعاسة تكبر يوما بعد اليوم و هي تتغذى منا و تثقل كواهلنا و نحن نزيد في الانحناء إلى الأمام، و تصير رؤية أقادمنا و نحن نمشي في الطريق أقرب اليوم بعد اليوم. إذا فالمكان يبقى أعظم الأشياء التي لا نملكها نحن من نتواجد في هذه الجلسة هنا.

  • وبعد المكان يأتي الوقت. نحن لا نعطي لأنفسنا وقتاً كافياً لإقامة عزاء، نحن نزاحم أيام العزاء بأيامنا الروتينية. ننهض من أفرشتنا بخيباتنا، نرتدي ملابس لا تناسب ملابس العزاء ونتجه لنزاحم العالم في وسائل النقل، يصطدم بنا أحد أو نصطدم به فنحتاج للكلام من أجل التأسف أو قبول الأسف، نشعل حاسوبا أو نفتح دفاتر و نضغط أرقام و نكتب حروفا، و من الواجب أن تكون صحيحة بدون مراعاة أن العقل حينها يكون غائبا و في حالة صيانة. “هل يستعمل أحدكم هاتفه أو حاسوبه حين يكون في حالة تحديث؟
    لا إنه لا يعمل”، فنحن أيضا حينها نكون في حالة صيانة وتحديث. لكن بدلا من ذلك نعمل ونكتب ويجب أن نتقبل التوبيخ، و يأتي أحد تافه ويسألنا لِمَ لا نضحك، تبا لك يا ذلك الشخص فنحن في عزاء؛ ففي العزاء ننتَحِبُ لا نُقَهْقِه.

    وبدلا من أخذ الوقت الكافي للشفاء، نستيقظ لنعمل، نبتسم لأهالينا وكأن لا جلل هنا، نجالسهم ونأكل بينما نلقي نكات وأحاديث ونضحك حتى عليها، نخبرهم ونؤكد أن الجبل لن يصمد أمامنا، فيصير حتى الوقت المخصص لنا قصيراً، ولا يبقى وقت للعزاء، بينما نُرِي للعالم أجمع أننا تجاوزنا المصيبة ومَرَرْنا مرور الكرام منها.

و هكذا يكون الوقت الكافي للعزاء سبباً عظيما لعدم شفائنا أبدا، فكما قال الأعضاء أعلاه، أن مزاحمة أيام العزاء بأيامنا العادية ينتج عنها عدم شفاء الجراح أبدا، فالاختلاط بأيامنا لا يساعد أبدا، والابتسام والصمود والمرور مرور الكرام، والقول بأن الوقت سيشفي، لا يشفي أبدا، والوقت الذي تم الحديثُ عنه هنا، هو الوقت الكافي للعزاء.

  • الرحيل آخِرُ النقاط التي وقف عليها جَمْع البؤساء أعلاه، الرحيل هنا لا يعني دائما ترك كل شيء والبدء من الصفر، الارتحال هنا هو الابتعاد. إن العلاقة التي تجمع العزاء بالرحيل، أو الابتعاد، هي الحاجة للبقاء بعيدا عن كل مَن يعرف مصائبنا ومَن يعرف وجوهنا، حتى نستطيع منح أنفسنا الشفاء بعيدا عن كلماتهم، بعيدا عن مواعظهم، أن يكون الجلوس لوحدنا متأمِّلين في الفراغ لا يعني أننا في حالة انهيار بل أننا نُقدِرُ أنفسنا كل التقدير.
    فالهرب والتنفس بعيدا، لكي نستطيع أن نَعُدّ جمع نمل في الشارع بدون أن يتعرف علينا أحد، أن نقف أمام بائع طعام لوقت طويل بدون أن نشتري، أن نقف فجأة في الطريق ونبكي، ونمسَحَ الدّمع فجأة ونضحك ونسكت فجأة أخرى ونكمل المشي وكأن لا شيء قد حدث، أن نستغرب من ملابس شخص نراه لأول مرة، وأن نمُرّ مرور الكرام من شجار بدون أن يعنينا إن كان أحد نعرفه فيه. لهذا الهرب من الوجوه التي تقوم بعزائنا كل يوم وتقوم بالسؤال في كل لحظة، وتُطِلّ علينا من كل ركن لكي ترى إن سقطنا أو قاومنا، هو الحل.

الهرب أو الرحيل بعيدًا هو آخر مراحل صنع عزاء صحيح؛ حيث يمكنك الشفاء و ترك المصيبة هناك، بل و ربما قد تجد الحل تحت صخرة، أو في وسط موجة، أو ربما في عش طائر لقلاق، المهم الابتعاد عن كل الوجوه وعن محاولاتهم في جعل مصيبتك محوراً لجلسات النميمة، الهرب لإقامة عزاء بحثاً عن الشفاء.

وَختامًا، أنا المتكلمة بصفة الجمع، أذكُر -أو نذكر- أن من الواجب الجمع ما بين المراحل الثلاث المذكورة أعلاه للحصول على عزاء صحيح، لعل المصيبة ترضى، والجلل يقتنع، والتعاسة تكتفي، والتعب يخضع ويقبل فينزاح عن الكاهل، بدون أن يبقى جالسا مُثقِلًا الأكتاف.
فالرحيل والوقت، والمكان الصحيح عناصرُ كافيةٌ لتعيش مصيبتك حدَّ الاكتفاء والشفاء، حتى يحين وقت العودة.

هكذا، يكون الجمع من المتعبين أعلاه المتكتِّمِين على أسمائهم والمتكلمين بضمائرَ لا تعبّر عنهم حفاظا على سريتهم، مع الجمع من المصائب التي وقّعت على وثائق عدمِ الكشف عن المشاركين في هذا الجمع، قد ساهموا جميعا في الكشف عن سر العزاء الصحيح، شاكرين لهم مُشارَكتَهُم معنا أعوامًا من المصائب والأثقال.

و بدون تناسي نرجو كل من وجد نفسه في أحد الكلمات أعلاه أن يحرق هذه الرسالة في أقرب وقت، أو أن يرسلها لعشرة أشخاص حتى لا تصيبه إحدى المصائب. ونحن نؤكد بأننا لا نتحمّل أي جلل قد يحصل لأحد بعد قراءته لدعوة إقامة عزاء صحيح.

.وشكراً

دعوة لإقامة عزاء

سمية الطالبي

أكتب منذ زمن، منذ تعلمت الكتابة و أنا أخط خواطر تنبعث من داخلي، من أين لا أعلم هي فقط تظهر فجأة من العدم، هذه أنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *