حول جدلية الإنسان والبيئة

آراء المدارس الفلسفية

تعتبر البيئة من أهم القضايا الكبرى التي تشغل اهتمامات المجتمع الدولي ؛ نظرا للتغيرات التي يعرفها العالم من تطور اقتصادي وديموغرافي وما لذلك من تبعات على البيئة والأنساق الإيكولوجية ونضوب الموارد ، خاصة وأن النماذج التنموية الحالية لا تراعي هذه الجوانب وما تسببه من مشاكل، فالعلاقة بين الإنسان والبيئة قديما اتصفت بالتوازن إلا أنها بدأت تضطرب في عصرنا الحالي لذا بدأ أمر الاهتمام بالبيئة والمحافظة عليها يعد شيئا أساسيا ولا شك أن أي تهديد لها يشكل تهديدا لبقاء الإنسان.

فمنذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو في صراع مباشر مع البيئة وما تحتويه من تحديات وصعوبات، فحاول التأقلم أكثر ، فتارة يسايرها، وتارة يحاول السيطرة عليها، وتارة اخرى يستسلم لها، ولتفسير هذه العلاقة بين الإنسان والبيئة ظهرت عدة نظريات واتجاهات فكرية _ حاولت تفسير هذه الرابطة التبادلية بين الانسان والطبيعة _ وعرفت بالنظريات البيئية

لكن قبل التطرق إلى هذه النظريات التي تناولت علاقة الإنسان بالبيئة لابد أولا من تبيان مفهوم البيئة إذ يستخدم في كثير من العلوم والمجالات المختلفة ويتغير تبعا للموضوع الذي يستخدم فيه والغاية منه وحسب تخصص الباحث الذي يتناوله بالتالي يصعب تحديد مفهوم شامل وموحد له وتعددت تبعا لذلك التعاريف في هذا الشأن وهي كالآتي :
* فهي المحيط المادي الذي يعيش فيه الإنسان بما يشمل من ماء وهواء و كائنات حية ومنشآت شيدها لإشباع حاجياته،
* إنها مجموع الظروف والعوامل الخارجية التي تعيش فيها الكائنات وتؤثر في العملية الحيوية التي تقوم بها،
* كما يمكننا أن نعرفها أيضا أنها تشمل كل ما يحيط بالإنسان يتأثر به ويؤثر فيه ولا يمارس حياته اليومية إلا ضمنه.


جغرافيا يمكن تعريف البيئة على حد تعبير محمد بلفقيه “البيئة هو نسيج من التفاعلات المعقدة التي تحدث بين جميع مكونات المحيط الطبيعي من كائنات حية والتي تكون مايسمى الرابطة الحياتية (إنسان، حيوان، نبات…) وعناصر غير حية تكون ما يسمى بالمحيا (التضاريس، المناخ، الهواء…) كما يشمل هذا المفهوم البيئة المستحدثة من طرف الإنسان وتكون ما يسمى بإطار العيش”.
ومن خلال هذا التعريف، فالبيئة تنقسم إلى قسمين: بيئة طبيعية وتشمل كل المكونات الطبيعية الموجودة على كوكب الأرض (هواء ، ماء، تربة، مصادر طاقة…) بالإضافة إلى الكائنات الحية، ثم بيئة مستحدثة وهي البيئة التي أحدثها الإنسان بفعل نشاطاته المختلفة الإقتصادية والعمرانية والبنية التحتية,

إن الاهتمام المتزايد في تفسير جدلية الانسان والبيئة برزت خلاله تلاث نظريات وهي :
النظرية الحتمية: الفكرة الأساسية لهذه المدرسة ترتكز على ان البيئة هي المسيطرة على الإنسان بتسييره لا تخييره ودوره فيها دور سلبي بالخضوع و التقيد وأن للبيئة إسهام كبير في تشكل و نشأة الثقافة و القيم و النظم الاجتماعية وحتى الطباع و الأخلاق وأن الإختلافات القائمة بين المجتمعات البشرية مردها الى الإختلافات المتباينة في الظروف البيئية.

فقد ظهرت أفكار وبوادر هذه المدرسة عند مفكري الإغريق نجد مثلا كل من هيبوقراط في كتابه “الجو و الماء و الاقاليم ” وأرسطو ضمن مؤلفه المشهور ” السياسة ” فيرى هيبوقراط ان هنالك اختلافات بين سكان الإقليم من أبرزها إختلاف الصفات الجسدية والنفسية واضعا مقارنة واضحة بين سكان الجبال والسهول إذ يقول بأن سكان الجبال يتميزون بالشجاعة والإقدام مفسرا ذلك بالعوامل الطبيعية المعرضين لها مباشرة كالأمطار والرياح… الخ عكس سكان الأقاليم السهلية فهم يتصفون بنحافة القامة والشقرة وفيهم طبيعة السيادة والإمارة وأرسطو أيضا قد ركز على العلاقة بين المناخ وطبائع الشعوب والارتباط الموجود بين تأثير المناخ في سمات الأفراد ليعطي صورة على سكان أوروبا بأنهم يتصفون بالشجاعة لكن ينقصهم الذكاء والتفكير السليم ويتميزون بالحرية على غيرهم وعلى نقيضهم سكان آسيا فهم أذكياء وحكماء لكن ينقصهم الحماس و الجرأة مما جعلهم محكومين بغيرهم.

كما يعتبر أيضا ابن خلدون من رواد الحتمية البيئية، حيث سعى إلى تفسير أثر المناخ في طبائع الشعوب وتأثير الهواء على ألوان البشر، وضرب مثلا على ذلك بشعوب السودان ووصفهم بالخفة والطيش وكثرة الطرب و الفرح والسبب في ذلك على حد تعبير ابن خلدون أنه “استولى الحر على أمزجتهم وأصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون روحهم أشد حرا (…)”.

هذا بالنسبة للحتميين القدامى أما الحتمية الحديثة والتي يتزعمها الرحالة فريديرك راتزل حيت إهتم في دراسة العلاقة القائمة بين البيئة و الانسان من خلال ثلاث محددات وهي كيفية توزيع السكان على سطح الأرض في أقاليم بيئية، ثم كيفية تفسير هذا التوزيع تفسيرا بيئيا، تالثا كيف تأثر البيئة على المجتمع بصفة عامة فقد حاول إبراز أهمية الإنسان كعنصر بيئي قوي وحتمية المؤثرات البيئية وأثرها على البشرية وتاريخ الإنسانية.

عموما فهذه المدرسة تعتبر الإنسان مسير لا مخير وأن طباعه يتحدد انطلاقا من حتمية بيولوجية أو جغرافية سيتسلم ويسلم بواقعه. إلا أنها لقيت عدة انتقادات من أهمها غلوها الشديد في تغليب الطبيعة على الإنسان، ولا منطقيتها في تفسير تطور البشر واكتساب طبائعهم بحيث أن هناك مجموعة من العناصر تشترك في تكوين طبائع الناس بالإضافة إلى أن التاريخ أتبث تشابه حضارات الشعوب وسلوكياتهم رغم اختلاف بيئاتهم و مناخهم.

الإنسان والبيئة – صورة تعبيرية

المدرسة الإختيارية: نتيجة الإنتقادات الموجهة لمدرسة الحتمية البيئية ظهرت مدرسة موازية سميت بالمدرسة الإختيارية حاولت تفسير علاقة الإنسان بالبيئة بنظرة مخالفة لأفكار المدرسة الأولى . فترى أن الإنسان غير خاضع كليا لمؤثرات الطبيعة وضوابط البيئة فهو قادر على التطوير و التغيير و التأقلم من خلال الإختيارات التي تمنحها له الطبيعة
ويعتبر فيدال دي لابلاش من رواد هذه المدرسة ويرى بأن للإنسان دور كبير في تعديل بيئته وتهيئتها وفقا لمتطلباته واحتياجاته واصفا إياها بأنها إنسانية وليست طبيعية ، لذا ينبغي دراستها على أساس تاريخي من خلال تحليل جهود الإنسان في علاقته مع البيئة عبر التاريخ,

نجد كذلك لوسيان فيفر واسحاق بومان من رواد هذه المدرسة فيريان بأن مظاهر البيئة كحقول الشعير مزارع الأرز والقطن… من فعل الإنسان كذلك الصناعة التي ترتبط بحد كبير بتوفير المادة الخام في بيئتها والتي بدورها تتطلب توفير المهارات،
هذه من بين الأدلة التي استندت إليها اصحاب هذه النظرية لتأييد نظريتهم بأن الإنسان باستطاعته ان يتحكم في البيئة كيف ما ياشاء

المدرسة التوافقية: نظرا للصراع المعرفي الذي دار بين المدرستين الحتمية و الإختيارية لابد من ظهور مدرسة تالثة تحاول التوفيق بين الاراء المختلفة لدى يطلق عليها بالنظرية التوافقية . هذه النظرية لا تؤمن بالحتمية المطلقة او الامكانية المطلقة وانما بدور الانسان و البيئة وتأثير كل منهما على الآخر بشكل متغير ، فتغلب على بعض البيئات تعاضم تأثير الطبيعة وسلبية تاغثير الإنسان ويكون العكس في البيئات الأخرى ويعتمد أصحاب هذه النظرية في تفسيرها على تصنيف نوعية البيئة من ناحية ( سهلة – صعبة ) ونوعية الإنسان من ناحية اخرى (سلبي – ايجابي).

ونجد المؤرخ الإنجليزي “ارنولد توينبى ” يحدد علاقة الإنسان بالبيئة انطلاقا من نوعية كل منهما:
1 – استجابة سلبية : تخلف الإنسان علميا وحضاريا مما يجعله غير قادر للإستفادة من بيئته
2 _ استجابة التأقلم : هناك نوع من التوافق بين الإنسان والبيئة مع سيطرة هذه الأخيرة فتمكنه مهاراته من التأقلم نسبيا مع ظروفها البيئية
3_ استجابة ايجابية : قدرة الإنسان في تطويع البيئة وفق حاجياته ورغباته حتى وإن كانت هذه البيئة صعبة فيتغلب عليها من خلال مهاراته الإيجابية
4 _ استجابة إبداعية : وهي أرقى الاستجابات على الإطلاق فالإنسان هنا يتجاوز تطويع البيئة الى الإستفادة منها في ابتكار أشياء تفيده في مجالات أخرى

لقد استطاعت هذه المدرسة أن توفق في تفسير العلاقة بين الإنسان والبيئة فهي لم تغلب الطبيعة على الإنسان كما لم تغلب هذا الأخير على البيئة ؛ بل حاولت قدر الإمكان التوفيق بين الموقفين فتفاعل الإنسان مع الطبيعة ليس بالضرورة خاضع لحتمية مطلقة او إمكانية مطاقة بل يتحدد وفق قدرة الإنسان على التكيف معها.

عموما تشكل هذه المدارس أهم المدارس الكبرى المحددة للعلاقة بين البيئة والإنسان؛ والجدير بالذكر أن الإنسان قد طور علاقته بالبيئة من خلال ما اكتسبه من علم وما أبدعه من معلومات فانقلب الميزان وأصبح هو المسيطر وأصبحت البيئة هي التي تعاني من مخاطر جمة ألحقها بها فتعالت الأصوات التي تنادي بضرورة حماية البيئة من جشع الإنسان وشرهه اتجاهها.


الهوامش
✓ هامش ساعد – سوسيولوجيا البيئة في ظل المدارس المفسرة والإتجاهات النظرية – ص 182-183-184-185-186-187-188-190 قسم علم الاجتماع جامعة باتنة
✓ حمداوي جميل _ من اجل تنمية مستديمة –الطبعة الاولى 2017 ص 71-72
✓ الحايك نور الدين _ محاضرات في وحدة البيئة والتنمية – جامعة محمد بن عبد الله كلية الاداب و العلوم الإنسانية سايس 2019_2020
✓ صفاء شريم _ العلاقة بين الانسان والبيئة _ مجلة موضوع اخر تحديث للمنشور21 يوليو 2020

حول جدلية الإنسان والبيئة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *