جوابي إلى فاطمة

جوابا عن تدوينة "الموت سر سعادتي"

بخط أندلسي رصين، أكتبها لك رسالة لا تدوين، لأسطر فيها بعضا من الملاحظات والتعاليق، وسأحاول قدر المستطاع أن تكون أشبه ما تكون رسالة لا تعليقا، ففي زمن التعاليق فقدنا إحساسنا المرهف باللغة وبالتعبير، في زمن التعاليق أضعنا اللغة وأصبح كل من يتقنها ويتكلم بها إما أضحوكة أو نكتة…وسأحاول أن تكون لغتها بسيطة ناصعة البيان، محبوكة برزم من حكاياي ومعان، متجاوزة كل قواعد التأليف والتدوين، فأنا أكره عند الكتابة كل القيود، وسأحاول أن أمحو عنها بعضا من ملامح السواد وأنفض عنها تفاصيل الأحزان – فكما تعلمين فبمجرد ذكر كلمة الموت يرخي السواد ستائره المحزنة- ، فاحرصي يا فاطمة أن تقرئي هذه الكلمات بعناية وتآن، علك تعدلين عن مقالتك “الموت سر سعادتي” وتقولين بعد رسالتي هذه “الأمل سر سعادتي”.
وبعد:
بعدما قرأت مقالتك لا أخفيك سرا أنني في البداية لم أفهمها جيدا، لم أستطع جمع المتناقضات فيها، ولكن بعد التكرار والإمعان، أدركت كل ما عنيته.
وبينما أقرأ تساؤلاتك في مقالتك جعلْتِني أبتسم، ففي كل علامة استفهام ذكرتني بأسئلتي وأفكاري الطفولية عن الموت، وحكاياتي مع الموت، فأنا أيضا كنت أرفض الموت، وأقول ما دمنا سنموت ونرحل فلم الحياة؟ لماذا يا رب بعدما أن أذقتنا حلاوة الحياة سنتذوق مرارة الموت والفقد؟

صحيح يا فاطمة علينا أن نتصالح مع الموت، ولكن متى؟ وهل نحن مستعدون للموت حقا؟ وتقبل نتائجنا الأخروية ؟ لذلك كنت على صواب مرة أخرى عندما قلت “ربما نحن لا نخاف الموت، بالقدر الذي نخاف من النهاية غير المحسوبة والرحيل بدون أن تتسنى لنا فرصة الوداع” وأضيف والرحيل من دون زاد هذا حقا ما يرعبنا في الموت.
يا فاطمة اعذريني قليلا، واسمحي لي أن أقول لك أنه لم يلقنونا أن القبر مكانا للتعذيب…، القبر أو ما يصطلح عليه الحياة البرزخية هي المعبر أو بتعبير أدق العالم الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى، فنحن نعيش في هذه الدنيا ونعمل ونكد من أجل أن نسعد في الحياة الأخرى، إذن فالموت بالنسبة لنا فاصلا قد يكون مشرقا أو مظلما، والحياة الأخرى هي الأبدية وليست الموت.
وبهذا فالقبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، أعمالنا – بعد رحمة ربنا- فقط هي من تحدد أي القبور تكون قبورنا (روضة أم حفرة)؟ يا فاطمة ربنا لم يخلقنا ليعذبنا أبدا، بل خلقنا لنعبده ولنحيا حياة طيبة في ظل شريعته السمحاء.
ويا فاطمة استشهدت في مقالتك باقتباس “عش كأنك ميت غدا”، وذلك لكي تقنعينا بأن نتصالح مع الموت ونجعلها نصب أعيننا دائما حتى لا نخاف منها، لكن أتدرين أنه بذلك تموت أنفسنا المحبة للحياة وينطفئ وهج الأمل بداخلنا، ولهذا فديننا يحثنا دائما على التوازن، والقرآن الكريم يقول لنا:” ولا تنس نصيبك من الدنيا“، وأذكرك بأثر جميل في تراثنا يقول:” اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، هذه المقولة يا فاطمة تحدد لنا التوازن بين السعي الدنيوي والسعي الأخروي، فالشق الأول يدعونا للجد والعمل في هذه الحياة وكأننا خالدون فيها فتذكر الموت يقهر لذاتنا وآمالنا وأحلامنا، ويصرف عنا حب الحياة ويصرف عنا حب العمل، لذلك فهذا الشق حريص لأن يُنْسِينا حقيقة الموت حتى نحلم ونعمل ونجد ولا نستسلم لليأس والكسل، للعجز والفشل، والشق الثاني يدعونا للاجتهاد في العبادة والذكر والصلاة وكل الأعمال الأخروية الصالحة وكأننا غدا سنموت، فبذلك ومتى علمنا بموتنا غدا سنخلص في أعمالنا وندعو الله بقلب خالص صادق خاشع، وبذلك فهذا الشق حريص على أن لا نجعل أيامنا تنقضي من دون أعمال صالحة تثقل ميزاننا يوم نلق ربنا، حتى نجد في العمل ونخلص في الطلب…
يا فاطمة ومهما تكن الأسباب والظروف التي جعلتك ترين الموت سببا في سعادتك، فإنها بالنسبة لي غير ذلك تماما، فهي سبب لخوفي على كل تلك الاشياء الجميلة في حياتي…
يا فاطمة وأنا أقرأ تجربتك المؤثرة مع المرض ووصفك الصادق وإيمانك القوي وأنت تواجهين احتمالات الحياة والموت أثناءه( أي أثناء المرض)، سأحكها لك أنا الاخرى تجربة خالدة في ذاكرتي…قصتي ليلة رأيت الموت…كان يا مكان…في ليلة من ليالي فبراير، ليلة سطرت وحفظت كل تفاصيل لحظاتها في أغوار أغوار ذاكرتي…كانت ليلة هادئة جدا…كانت سماؤها صافية لا نجوم فيها…كانت كصفحة نهر فضية تترقرق سحرا وجمالا…ليلة استسلم فيها الكل لنوم عميق وفي لمح البصر استسلم البعض منا لموت عميق وعميق جدا…
كانت ليلة الثلاثاء 14 من فبراير2004، وعلى الساعة الثانية ليلا وعشرون دقيقة… فجأة ومن دون سابق إنذار… تبدد السكون إلى هدير عاصفة يزمجر ويزمجر في كل الأرجاء…دوي رهيب تتصاعد موجاته في هذا الفضاء…دوي أصم الآذان وأسكت الأنفاس…إنها الأرض تنهدت من سباتها فجأة، لتطلق عنان صرخاتها وزفراتها الممتعضة في كل مكان…لتفجر براكين غضبها الدفين، لتنطلق بعدها صفارات الإنذار… معلنة عن قدوم موكب الموت… في هذه اللحظة فقط رأينا الموت يطبل في موكب حافل، رأينا الموت يزحف إلينا ويحاصرنا من كل الاتجاهات، ليظفر بضحايا في العراء وأخرى تحت الانقاض، في ذلك الوقت فقط أحسست بالموت يقترب مني وأنا أدعو ربي في خفاء أن يوقف هذا الكابوس ، خطوات، لحظات معدودة ونكون بعدها في عالم آخر … أحسست بخوف عارم من الموت، كانت أذني تلتقط أصواتا مختلفة ممزوجة مع بعضها البعض لتشكل معزوفة مرعبة، نوتات صاخبة عويل، صياح، تكبيرات، وصراخ أطفال ونساء…، تحطم جدران وانكسارات زجاج، ولكن دوي الأرض وخفقات قلبي المرتعشة كانا يعلوان فوق كل الأصوات…. في تلك الليلة فقط رأيت الموت، هربت من الموت ، تسللت من فراشي، ونهضت بأقدام ثابتة فوق أرض متموجة أمشي، أحسست بغضب الأرض يزداد مع كل ثانية تمضي، وأنا أصر على المضي قدما ، أنزل الدرج في هدوء، لأن كل حركة خاطئة قد تهلكني، شيئا فشيئا أحسست أن الأرض بدأ ينقص دويها، هيجانها يهدأ بصعوبة رويدا رويدا حتى توقف وأنا عند الدرجة الأخيرة من الدرج…أحسست في تلك اللحظة بضعفي الشديد فلو أن السقف خر علينا لما نجوت أبدا رغم محاولتي الفرار… ليلة عشنا فيها دهرا من الذعر والهلع…وعندما قيل لنا أنها كانت ثواني معدودة( 20ثانية) أدركت مدى تقديرنا الخاطئ للزمن وللموت…
استيقظ من استيقظ، واستسلم من استسلم لرقاده المريح…في تلك الليلة أحسسنا نحن من استيقظنا أن الموت منحتنا فرصة أخرى للحياة والنجاة…واستمرت الحياة بعد كل أهوال الكارثة، بعدما ظننا أنها النهاية. وتكتبين بعدها عن الموت يا فاطمة وتتصالحين معها وترينها سر سعادتك…؟؟
نحن يا صديقتي نحب الحيـــــــاة بكل ما فـــــــــــــينا ولا شيء فيها يشبـــــــــــه ما فينا، نحن نحب الحياة بكل ما فيها ولا شـــــــــيء لنا فيها….نحن نحب الحياة حد الجـــــــنون وزيادة ونكره كل ما فيها….
أتعرفين يا فاطمة أنني عندما سمعت لأول مرة عن الموت صدمت رفضت أني يوما ما سأموت، لم أصدق أنذاك، كنت أرى في الموت ظلاما دامسا، شبحا يطاردنا لا ندري متى ينجح في الانقضاض علينا ودفننا في التراب…شبحا يريد أن يسكت أحلامنا إلى الأبد…ونحن نحاول الانفلات منه بعيدا..
كنت صغيرة أنذاك، وكرهت أن أكبر كي لا أموت، كنت أظن أن الكبار وحدهم فقط من يموتون، ولكن أتدرين أن أول الموتى منذ أن بدأت ذاكرتي تسجل الأحداث كان طفلا صغيرا، عندها رفــضت الموت أكثر فأكثر، فكيف استحلت هذه الموت واستلذت أن تأخذ طـــــفلا لم يكد يرى نور الحياة، أخذته وهو لازال في مهده، اختطفته الموت بينما كانت الحياة منشغلة بفـــــــتح هدايا استقبال مولودها الجديد… يبدو أن الحياة والموت قد تصارعتا وتحاربتا حوله كثيرا وانتصرت الموت وتمكنت من رفع رايات الحزن ونزع بساط الفرح من تحت أقدام الحياة…
نعم لقد رفع الموت راية الحزن والسواد عاليا وجعلها خفاقة في هذه الآفاق، تخفق وتخفق وتخفق بكل قوة…
منذ ذلك الوقت فهمت أن السواد هو من يتنصر في هذا العالم…ورغم ذلك فنحن نحب هذا العالم رغم سواده ونفاقه وظلمه وزيفه وأحقاده…نحبه لأننا لا زلنا نعيش على أمل أن ترجع إليه صورته المشرقة، صورته النابضة بالحياة.
أتدرين يا فاطمة أنني لم أجرؤ من الاقتراب أو حتى مجرد التفكير في الاقتراب من منزل ذلك الطفل…أتدرين لماذا؟ ببساطة كي لا تراني الموت وتنقض علي وتأخذني من هذه الحياة التي أحبها كل الحب…
كبرنا يا فاطمة ورغم كل المحن والانكسارات لازلنا وسنظل نحب هذه الحياة….نُجَمِّـــــلها نلونها، ونتفنن في إظهارها في أبهى حللها، نكذب على أنفسنا ونرسم أحلاما زهرية، فقط كي تحلو لنا الأيام…، فقط كي تزهر الحياة بداخلنا، فقط كي نستطيع إكمال مسيرنا الطويل والمتعب في طريق وعرة نحو القمر البعيد…
كبرنا يا فاطمة وصدقت أني يوما ما سأموت…الموت يا صديقتي هي الحقيقة التي تنتظرنا جميعا في هذا العالم، حقيقة مؤلمة ومؤنسة أحيانا، فقط عندما نُــظلم ونحزن نقول الحمد لله آخرها موت، كل واحد منا سيلقى عمله وجزاءه يوم لا ينفع مال ولا جاه إلا من أتى الله بقلب سليم.
أتدرين يا فاطمة أنه لا ولن يوجد شيء يستطيع أن يوقفنا عن مسيرنا، لا ولن توجد قوة تقتل أحلامنا، قد تؤخرنا نعم، قد تعطلنا لبعض الوقت أو لسنوات أيضا نعم، قد تعرقل مسيرنا وترغمنا أن نسلك طرقا لم تعد معبدة أكيد نعم، وقد تسقطنا وقد تنحينا وقد وقد…ولكن حتما لن توقفنا ولن تكسر عزمنا ولن تقصم ظهرنا…ولكن أتدرين يا فاطمة أن الموت تفعل كل هذا بنا وزيادة، لذلك فنحن نحلم ونحلم وعندما نتذكر الموت كل شيء يتوقف بداخلنا. أحلامنا تخبو وتركن للعجز… تتبدد وتتمزق عندما تعصف بنا نسمات الموت، ونتمنى أن لو ما حلمنا أبدا…فكيف ستصبح الموت بعد كل هذا سر سعادة؟؟؟
وأنا عند الأسطر الأخيرة من مقالتك أحاول أن أفهم ما الذي جعلك ترين الموت سر سعادتك، لأكتشف أنك تحاولين لملمة جراحاتك وانكساراتك، تحاولين تكسير هالة الإحباط والفشل…ثقي يافاطمة أنها ستنكسر وأن أحلامك ستزهر…وأن الربيع قادم لا محالة.
صديقتي فاطمة، إن الأمــل هو الذي يـــــــُبقـــــينا أحــــياء في هـــــذه الحياة، إن الأمل ومقاومة الفشل والإفـــشال هي التي نســـــــتمد منها كل طاقــــتنا وإذا ما يوما خـــبــــت في نــــفوسنا أنذاك فقط ربما سنقول مرحبا بالموت…
ومادامت زهور الأمل مـــــتفحة في قلوبنا، ومادامت الحياة تـــــسري في نفـــوسنا، سنظـــل كل صباح نســــتيقظ، نحــــمد الله على أن رد إلــــينا روحـــنا، ووهـــبنا نعـــمة الحياة من جديد، لنوقـــظ أحلامـــنا ونســـقي ورودها…متــــمنـــياتي لك صديقــــتي بطول العــــمر وتحقــــيق الأمل….تحياتي.

جوابي إلى فاطمة

سليمة الحدوشي

باحثة في القانون والسياسات البيئية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *