مفهوم المجتمع المدني

سؤال الإمكان في السياق المغربي

يعيش المشهد الجمعوي المغربي تناسلا مستمرا على مستوى إنشاء الجمعيات والتنظيمات والتعاونيات، وهو معطى يضع الباحث والملاحظ أمام ضرورة مساءلة الحقل المفاهيمي الذي تنتمي إليه أو يتم إدراجها ضمنه، هذا الحقل الذي يبرز فيه مفهوم المجتمع المدني باعتباره محضن هذه الهيئات المختلفة، والذي يحظى بأهمية بالغة من حيث استعماله وتوظيفه، إذ يعد مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الأكثر غموضا في العلوم الاجتماعية، وذلك بالنظر لتعدد تعريفاته التي صيغت بشكل متباين ومختلف من قبل المفكرين والباحثين تبعا لاختلاف مرجعياتهم الفكرية، الثقافية، البيئية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، التي تأثروا بها، بمعنى أن الأفكار تنشأ ضمن سياق ما وهذا الأخير هو مزيج من الظروف المتداخلة والمتقاطعة فيما بينها التي تعطي كلها معنا ما للأفكار التي تولد فيها، والمجتمع المدني واحد من هذه الأفكار. في هذا الصدد تبرز إشكالية مركزية تروم فهم وتحليل مفهوم المجتمع المدني ومدى إمكانية انبثاقه في السياق السياسي والاجتماعي المغربي، وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة أسئلة تتحدد في الآتي:
• ما هو مفهوم ودلالة المجتمع المدني؟
• وما هي أهم سماته وخصائصه المميزة له؟
• وهل يساعد النسق السياسي المغربي على انبثاق مجتمع مدني؟
• أين تتموقع الظاهرة الجمعوية في السياق الاجتماعي المغربي؟
• هل يؤشر التنوع الجمعوي على قيام فعلي لمجتمع مدني؟
ولمحاوله الإجابة على هذه الإشكالية وما تفرع عنها من أسئلة جزئية، ارتأينا تقسيم الموضوع إلى محورين رئيسيين، نتطرق في الأول الأساس النظري للمجتمع المدني وفق مقاربة مفاهيمية، لننتقل في المحور الثاني للحديث عن إمكانية انبثاق مجتمع مدني في السياق المغربي.

المحور الأول: الإطار المفاهيمي للمجتمع المدني

يتخذ مفهوم المجتمع المدني تعريفات متعددة، يصعب معها إجراء تحديد دقيق لهذا المفهوم، ففي الفكر الإغريقي تَطابق المجتمع المدني مع “الدولة”، حيث لم يجري الفصل بينهما في تحليل المفكرين، بل ركّز الفلاسفة الإغريق -وفيما بعد مفكروا العقد الاجتماعي- على كون المجتمع المدني نفيٌ لحالة الطبيعة التي يغيب فيها وجود السلطة المدنية، التي تُعنىٰ بحماية حقوق وحريات الأفراد من الفوضى أو الحروب المستمرة، ثم تشكّل المجتمع المدني كحالة نفيٍ للدولة ذاتها في نهاية القرن العشرين مع الثورات في أوروبا الوسطى والشرقية ثم أمريكا اللاّتينية. كما أن المجتمع المدني ظهر في إطار الدولة القومية، ثم بعدها جرى الحديث عن المجتمع المدني العالمي مع انتشار العولمة وتأثيرها على الظواهر السياسية والاجتماعية المختلفة على صعيد العالم. وقد انبثق مفهوم المجتمع المدني في أوروبا وتطور في مناخ اتّسم بانفصال السلطة الدينية عن الدولة، وبهذا المعنى يعبر مفهوم المجتمع المدني عن مسألة إرادة الأفراد في مواجهة “القوى الماورائية” في تنظيم شؤون حياتهم. السّمة الثانية للمناخ الذي ظهر فيه المجتمع المدني هي حكم القانون، الذي يتيح للمجتمع المدني حلّ الصراعات بين الأفراد بالطرق السلمية، كما يشير إلى ذلك آدم فيرغسون في مقاله تاريخ المجتمع المدني. والخاصية الثالثة هي أن المجتمع المدني في أوروبا شكل تطور شخصية الأفراد وانتقالهم إلى أطر اجتماعية وسياسية كما يقول هيغل، بشكل أكبر توسعا من انتمائهم للعائلة، ما يجعل من المجتمع المدني تعبيرا عن إرادة أفراد مستقلين، وشرط الاستقلالية هذا هو نفسه ما أكد عليه ألكسيس دي توكفيل، حيث يذهب إلى اعتبار أن فعّالية المجتمع المدني رهينة بالتنظيم الحر الذي لا تتدخل فيه الدولة. وقد أشار هيغل إلى أن الأفراد في المجتمع المدني ليسوا فقط مستقلين بل أيضا مندفعين بحرية نحو تحقيق المصالح، وهذا راجع في نظر روبرت بوتنام إلى وجود نوع من الثقة الاجتماعية وعلاقات التشبيك بين الأفراد والتعاون في إطار ما يسميه رأس-المال الاجتماعي. وإذا كان كارل ماركس قد موضع المجتمع المدني في البنية التحتية للمجتمع فان انطونيو غرامشي قد وضع المجتمع المدني في البنية الفوقية للمجتمع وحلله ضمن مفهومي الثقافة والهيمنة من جهة ومفهومي الهيمنة والتحرر من جهة أخرى، ولم ينظر للمجتمع المدني فقط باعتباره أداة هيمنة من قبل الطبقة البرجوازية لانتزاع الشرعية-القبول من الشعب، بل أيضا كأداة استراتيجية للصراع الثوري ضد الدولة التسلطية في أوروبا الوسطى والشرقية.

المحور الثاني: المجتمع المدني في السياق المغربي

يمكن فهم ظاهرة المجتمع المدني في سياق العلاقة مع الدولة والمجتمع، وتفسر شرعية وجوده من عدمها انطلاقا من تصور السلطة القائمة، سواء اتخذ هذا الوجود صفة الشريك أو الطرف غير المرغوب فيه، أو بتعبير آخر سواء في إطار التنافس والصراع أو في إطار الاحتواء والاحتكار. فالصفة التي تميز مفهوم المجتمع المدني كما نشأ في الغرب، تبدو عصيّة على التصور في التجربة المغربية، ذلك أن السياق المغربي لم يتشكل فيه مجتمع مدني حقيقي، وإنما الذي برز وقام هو مجموعة مؤسسات وتنظيمات اتخذت شكل جمعيات وتعاونيات، تم تسويقها إعلاميا على أنها تشكل ماهية المجتمع المدني وجوهره، والحقيقة أن هناك اختلافا بين الأمرين. ذلك أن طبيعة النسق السياسي المغربي الذي يصفه الباحثون بالتفرّد والخصوصية المميزة له عن باقي الأنساق السياسية المقارنة، لدرجة تجعله خارج دائرة التصنيف كما يقول محمد الطوزي؛ طبيعة النسق هذه تجعل من الصعب تشكل مجتمع مدني بل انبثاقه بشكل مستقل وحر، إذ أن النظام السياسي المغربي يعرف باحتكاره للمجال السياسي والاجتماعي وباحتكاره للنخب والرموز ويتسم باحتكاره أيضا للمبادرة، ما يجعل من مسألة قيام مجتمع مدني في ظل هذا النسق تمثل بعيد التحقق. ثم إن المجتمع المغربي الذي تخترقه بنية “المخزن” في شتى مجالاته بالشكل الذي لا يسمح بوجود غيرها، يضعنا أمام معطى الفاعل الواحد والوحيد الذي يباشر الاحتكار ويمارس الفعل والتغيير من أعلى. قد يقول قائل إن المغرب بالرغم من هذه الصورة التي بسطنا آنفا، يتوفر على نسيج جمعوي هائل، والجواب أن اعتماد هذه المقاربة العددية في النظر إلى الواقع الجمعوي، لا يلغي كونه مجرد تنظيمات إما منضوية ضمن السلطة وتشتغل وفق شروطها، وإما تابعة لها غير مستقلة عنها بالنظر لآليات الضبط المتحكمة فيها، وهذا الواقع مخالف للمفاهيم والشروط المدنية المقابلة لاسيما منها مفهوم القانون والاستقلالية. ثم هي (أي التنظيمات الجمعوية) لا تعدو أن تكون ردة فعل على واقع فرض نشأتها نتيجة ظروف وسياق دولي ووطني محتدم، جعل من مسألة إحداثها ضرورة حتمية، لكنها لا تصل حدّ الاتصاف بالاستقلالية والحرية. ناهيك عن كون التمثلات والمفاهيم التي تحكم عقلها الجمعي تنضح من الماضي والقبيلة والعصبية وغيرها من المفاهيم التي لا تمت بصلة لمفهوم المدنية، كرمز مفاهيمي غربي يحيل على الليبرالية الغربية، كما يشير إلى ذلك المستشرقون الذين درسوا هذا المفهوم وحضوره في العالم العربي والمغرب منه. ولهذا يذهب العديد من الباحثين العرب إلى القول بأنه في الوقت الذي ظهر المجتمع المدني في أوروبا بشروط سياسية واجتماعية معينة، فإن هذه الشروط كانت غائبة – نسبيا- في المجال العربي، إذ أن الشروط الضرورية لوجود مجتمع مدني وانبثاقه هو توفر شرط الاستقلالية والحرية، وهي شروط تكاد تكون مفقودة في العالم العربي، باعتبار المنظمات الجمعوية في الدول العربية غير مستقلة عن الحكومات وباقي الفاعلين في النسق السياسي، بل يتم إنشاؤها واستخدامها كوسائل ضغط ضمن اللعبة السياسية. إضافة إلى أن هذه المنظمات توجد في واقع تكون فيه ارتباطات الفرد بالانتماءات الأولية في إطار القبيلة، العشيرة، القرابة، الطائفة والمذهب أكثر قوة من الروابط المدنية، فنكون بذلك أمام مجتمع أهلي لا مدني.

مفهوم المجتمع المدني

شادي ياسين

باحث في القانون العام والعلوم السياسية، حاصل على شهادة الإجازة في القانون العام، ماستر في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ماستر العمل البرلماني والصياغة التشريعية، حاصل على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، مدون، فاعل جمعوي...

تعليق واحد

  1. مقال رائع ، بالفعل لاوجود لمجتمع مدني حقيقي في عالمنا العربي بحكم غياب الاستقلالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *