فواصل انطباعية.. بين المتوقّع واتجاه السرد المنعرج

رواية «صنعاء القاهرة الخرطوم» للكاتبة تسنيم طه

صدرت رواية «صنعاء القاهرة الخرطوم» أولى روايات الكاتبة السودانية تسنيم طه عن دار «المصرية السودانية الإماراتية للنشر والتوزيع» بعد إحرازها المركز الأول في مسابقة ”غلمان الأدب“ برعاية الدار.. طبعة ٢٠٢٠، في ٢٤١ صفحة، و٢٨ فصلا.

أتولّج في إبداء انطباعي عن الرواية بأكثر ما شدّني إليها، وهو البناء المعقّد لا أعني على مستوى الأحداث المتشابكة _كما سأفصّل_ ولكن تشذير الزمن (زمن الحكاية) مع صبغه بصبغة فلسفية تبدّت في الختام حين إخماد الأحداث فانضاف لذلك التعقيد الحل اللا متوقع لمشكل الشخصية الرئيسة للرواية ”شمس“ الذي سايرها منذ البداية وعبر الزمن المتناثر الشذرات في: صنعاء، القاهرة والخرطوم.

بداية وقبل إفضاء القول إلى البناء فهذا تسطير لقراءة انطباعية بصورة تداعيات ما بعد القراءة عن مكامن الجذب في الرواية التي أسجّل عنها هذه الفواصل، لا تحلّق نقدي يهدف بأدواته للإحاطة بالرواية أو بما يُستطاع منها رغم أنها تستحق، وجدا..

• العنوان:
يجنح العنوان بالخاطر إلى رواية المكان باقتناصه لأسماء مدن ثلاث، عواصم لدول عربية، غير أن ما يميز جنس رواية المكان أن المكان يعدّ شخصية قائمة في الرواية فيتعدى دوره (كمكان) إلى دور آخر مضاف هو (تأثيره ذاته في السرد)، وهنا أعني السرد بما فيه سواء انطبعت آثاره على الشخصيات أو الأحداث أو… الخ. ولكن في رواية «صنعاء القاهرة الخرطوم» فالعنوان مخاتل فالبقاع الثلاث ليست ذات أثر في الرواية غير أنها (مساحات) شذّرت فيها الكاتبة زمن الرواية بامتداد عمر (شمس) المصرية المولودة في صنعاء وعاشت فيها جزءا من طفولتها، ثم المقيمة لاحقا بالقاهرة قبل زواجها، والمقيمة بالخرطوم بعد زواجها من السوداني (معتز) المولود لأم مصرية.

غير أن المكان، أو لأقل الأمكنة لتمدّد الأحداث في ثلاث مدن، لم يكتف باتخاذ هيئته المعروفة كعنصر جغرافي محدّد.. فالمكان محمّل ببعد فلسفي شيّد منه هيئة متجددة للمكان بالمضاف إليه من قيمة. فصنعاء حيث وُلدت ”شمس“، تلك المدينة تصيّرت من حاوية لزمن في الحكاية إلى ذاكرة تحمل أشياءها الشعورية المؤثرة في شخصية ”شمس“ في الأحداث اللاحقة الجارية في القاهرة والخرطوم.

• المدخل، العتبة السردية:
مدخل الرواية، أي رواية، هو ما يحدّد للقارئ قراره بإكمال القراءة أم لا لطبيعة الرواية الطويلة نسبيا بما تنزعه من وقت. فما لم ينجح الروائي في الحثّ على المتابعة منذ المدخل فلن يجد فرصة أخرى لفعل لذلك، لأنه في الحقيقة لن توجد فرصة أخرى لأن القارئ نفسه لن يتابع بعد دلوفه عبر مدخل غير جاذب.. في رواية «صنعاء القاهرة الخرطوم» كان المدخل في الفصل الأول بعنوان (سلسيون) المروي على لسان ”شمس“:«أخيرا سأتزوج، وسيرتاح الكل.وستزول العقبة من طريق أختي المتلهّفة لدخول القفص الذهبي، وستُلقي أمي عن كاهلها خوفها من العنوسة على ابنتيها الوحيدتين، وستريح والدي من تقريعها لتمسكه بوصية وعادات وتقاليد عفا عليها الزمن»، (الرواية، ص٥).

وهذا مدخل مفصح، كاشف عن جملة من شخصيات الرواية: شمس وأختها، أمهما وأبيهما، الموضوع الأساسي ذي الطبيعة الاجتماعية (قضية العنوسة). ولكن بالتقدّم في فصول الرواية تنضح في الأحداث قضايا المرأة بصورة عامة منبثّة في الأحداث المتعلّقة ب: ”شمس“، أختها ”ميسم“، أمهما بدرية وجاراتها، وصديقات ”شمس“.
ولكن.. بعد الفصل الأول القصير _وكذلك كل فصول الرواية ذات نفس قصير_ جاء الفصل الثاني على لسان بدرية، والدة ”شمس“، ليدور عن قرار ابنتها بإلغاء زواجها.. وهكذا منذ البداية اشتغلت الكاتبة على هدم المتوقع بعد تقديم مقدّمات توحي إليه بينما تفضي بالقارئ إلى اتجاه سردي آخر.. وربما بعد تكرار هذه الهدميات يجد القارئ أنه يجاري السرد بلا توقعات أو ربما هكذا قرأت أنا، على الأقل.

• المُضمر في صنعاء:
يتكشّف السرد عن سر عزوف ”شمس“ عن زواجها من ”معتز“ في اللحظات الأخيرة، وعن انسحابها من خطبتين سابقتين قبل ذلك.. وذلك لالتصاق ذكرى قديمة ضاربة بجذورها في بواكير الطفولة بصنعاء، تتسم بحدث عادي لا يُتوقع أن يكون مؤثرا حيث بدأت القصة بلعبة (عريس وعروسة) المعروفة مع الطفل اليمني ابن الجيران ”وضاح“.. وبقراءة أمي الطفلين الفاتحة بشكل عابر تحوّلت تلك الذكرى لدى ”شمس“ إلى حالة أشبه بالاستدعاء اللاواعي كلما بدأت في الإعداد لمشروع زيجة ليفشل مشروعها بإعلان مفاجئ منها بصرف النظر لأن.. تمّت قراءة فاتحة زواجها من ”وضاح“!.. ولكن ذكراها تُستدعى في شكل كابوس يغض مضجعها ولا ينزاح إلا بالعزوف عن الزواج المزمع والاستمرار في حالة (العنوسة).

• تعديد الأصوات السردية:
إن كان ثمة خفض للقيمة الفنية للرواية _وهو خفض محدود_ فهو للإكثار من الأصوات السردية بصورة فيها شيء من المبالغة، وهؤلاء الرواة وإن كانوا يؤدون دور المرايا في الغالب لشمس وأحداث حياتها ولكن إسناد ضمير المتكلم لشخصيات (ثانوية)، وأقل منها لشخصيات (هامشية) أثقل القراءة بتشبيك الرؤى من قبل كل هذا العدد من الرواة، ويمكن هنا إحصاء الرواة:
• شمس.
• أمها بدرية.
• نازك أم معتز.
• معتز.
• حمدي والد شمس.
• روماني صديق معتز.
• ميسم أخت شمس.
وعلة رأيي أن الضمير المُتكأ عليه في طول الرواية هو (المتكلم) وكان في تنويع ضمير الراوي سعة عن حصره في مساحة محدودة استلزمت كثرة إسناده لرواة هم فعليا لا دور لهم في الأحداث غير أنهم أُولجوا في السرد كمكمّل للحبكة، أعني بعضهم.

• القضايا، الموضوعات:
اشتغلت الكاتبة على مستويين اجتماعيين: ما قبل الزواج وما بعده. وفي هاتين المرحلتين بالنسبة لشخصيات الرواية الأنثوية ”شمس“ وأختها وغيرهما..أظن أنها نجحت في عرض اشكالات وحلول (معا).. قد نتفق معها في جانب الحلول أو لا لكن المغزى الأهم للإشارة فيما قدّمته الكاتبة كنهايات مغلقة ذات رؤى لها مدلولات قد لا تكون كذلك.

• عنصر التشويق:
تجلّت براعة الكاتبة في إشاراتها للحلم، الكابوس، بدون أن تفصح عنه بالحكي الصريح وإنما هو كابوس مؤثر في مجريات الأحداث ولكن ما هو؟.. وبتصاعد مشوّق للحدث الرئيس، شمس وزواجها وكابوسها.. تطرق باب إحدى مفسّرات الأحلام لتحصل على تعبير لذاك الحلم الذي قيّدها بالعنوسة طويلا.. والحلم عن وضاح يتضح في الختام أنه ليس رؤيا حق كما تظن شمس بل وهم وزبد لتجد أن الأصلح هو الحاضر (مع معتز في الخرطوم) وما يمثّله من توثّب للمستقبل بما أعدّته له من مشاريع.

يمكن الإضافة هنا أن أحد فصول الرواية حوى خدعة سردية بتوغّل ”شمس“ في عالمها الحالم، والفصل فلسفي يتمطّى إلى أغوار النفس لتلمّس غير المُدرك الذي لا يرتفع إلى مستوى الإدراك إلا بالتفتيش هناك، لا على طريقة ابن سيرين الفقيه المفسّر المعروف.. ولكن على طريقة تحسّس الكوامن النفسية التي تنعقد بأحداث الطفولة وتنفث فيها المراحل التالية لتصير سلوكا لا يمكن فهمه تماما إلا بالنبش في الذاكرة سجِل النفس ومرآتها.. وتصرخ شمس: ”هنا والآن“ في الفصل الأخير الذي عنوانه (كش ملك) ليكتشف القارئ أن كل فرضياته القسرية عن وضاح قد سيقت إلى سياق يتباعد إلى فلسفة الحياة نفسها، ووجوب القطيعة النفسية مع المنغصات الساكنة في أرجاء النفس، بإشارة عمومية مفتاحية قدّمت نموذجها السردي المتجاوز إلى نماذج وحالات و(متلازمات) لا يمكن أن تُحصى.

• المعرفية ذات الطابع الموسوعي:
اتخذت الرواية مظهر الدليل الشامل لزخم معلوماتي بديع، وجدا.. بشكل يدلّ على اشتغال حقيقي في حشد هذا الكم الكبير لأجل التثقيف المعرفي من: التاريخ القديم والحديث العالمي والعربي والسوداني، الأحداث السياسية، الوجبات، العادات والتقاليد، المظاهر العمرانية، الآثار، المناطق السياحية، وأسماء كتب وكتاب وشعراء، ومن أهل الفن الغنائي والتمثيل… وهذا الحشد في مظلة بمساحة العنوان «صنعاء القاهرة الخرطوم» وأوروبا أيضا.. وإن اكتفت الرواية بهذه القيمة الثقافية العالية لكفى بها إبداعا وتفنينا.

• اللغة:
السهلة فوق التصوّر بدون اجتهاد في تذويقها وتنميقها، السائلة هكذا تحمل أحداثها ورؤاها وأشياءها كقناة منسابة، اللغة التي عندما بدأتُ الرواية توقّفت عندها وتساءلت عن بساطتها ولمّا فرغت رأيتها الأنسب وتساءلت كيف يمكن أن تُكتب إلا هكذا.

• الاقتباسات:
لدي رأي قاطع، أو كان كذلك، بأن اقتباس الأشعار والمقولات من بطون الكتب وأفواه الحكماء وأقلام الكتاب.. ولصقها في الرواية يفسد الرواية.. قد لا يوجد رأي قاطع بصورة دائمة لأن رواية «صنعاء القاهرة الخرطوم» لهي من الاقتباسات حوت الشيء الكثير، الكثير جدا.. غير أنه الاقتباس المناسب في السياق المناسب، الجو الذي لا يغبشه الاقتباس بل يزينه.. والكاتبة نزعت من الديوان الغنائي أغنيات بدءا من أم كلثوم وطلال مداح وعمرو دياب وعبد المجيد عبد الله وفيروز ومعتز صباحي ومصطفى سيد أحمد… الخ.. ومن (قواعد العشق الأربعون).. ورغم تعدّد تلك الاقتباسات لكنها جاءت متلائمة، ومتآلفة، مع الشحنات الشعورية التي اندرجت في سياقاتها وأحداثها.

• وأخيرا:
مؤكد أن الرواية تستحق عناية نقدية جادّة لا عابرة كما تولّجت فيها _وكما قرأتها خطفا_ لأن ما أسلفت الإشارة إليه في بداية الإلقاء يستحق ذلك.. وهو بناء الرواية، بنيتها، سمها ما شئت.. خصوصا تشذير الزمن مع تحميله أحداث خارجية: (صنعاء وما جرى في ناحيتها من حروب وتوحيد لقسميها الشمالي والجنوبي إلى الحوثيين اليوم)، (مصر وما جرى فيها من أحداث النكسة والثورة وغيرها)، (الخرطوم وما جرى في سودانها منذ الممالك القديمة ومعارك المهدية إلى الثورة الأخيرة وفض الاعتصام الذي شهدته شمس وزوجها معتز).. والتعقيد الذي استرعى انتباهي هو إحاطة زمن الحكاية بأحداث الشخصيات مع أحداث أخرى خارجية، شكّلت تلك الإحاطة برمتها وبكل محتوياتها مع تشابك الرواة في تبادل السرد بنية روائية تستحق اشتغالا نقديا، حقا.
ومع هذا التساوق بين الأحداث الخاصة بالشخصيات والأحداث العامة (كل ما هو غير متعلّق بها) والحشد المعرفي الطاغي في مساحات كبيرة نتجت هذه الرواية الشاهقة، والتي سأقرأها مرة أخرى _إن شاء الله_ متى ما أتيح لي ذلك، وعلى مهل.

فواصل انطباعية.. بين المتوقّع واتجاه السرد المنعرج

زياد مبارك

كاتب، مدون مهتم بالثقافة والأدب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *