عندما يذبل الزهر

لقد فاض القلب مجدّدًا بمنسوب الحزن الذي تجاوزَ الحدَّ في الآونة الأخيرة، صار يفيض عدة مرات في اليوم لا يتركني أرتاح ولا لحظة أعلم أنني من يفتح له الباب على مِصراعيه ومن يُرحّب به رغم أنه ضيفٌ ثقيل لا يستحملُه أحد، نعم أنا من يساهم في إيقاظ أكوامه القابعة داخل جدران القلب ولكن لا حلّ لي أنا مُجبرة على استقباله والسماح له بأن يأخذ راحته وهو يقطَع شِغاف القلب من جذورها؛ فالفترات العصيبة التي مررتُ بها هي من أوْدَت بي إلى هذه الحالة لم أكن يوما كذلك، لطالما تميَّزَتُ بخفة روح لا مثيل لها تجعل كل من يرمقني يستغرب على ما أحمله في جعبتي من نشاط وحيوية أغدو وأروح، وأطير كالفراشة من زَهْرٍ إلى زهر لا أؤذي ولا أسكُن أبدا عن الحركة ..

تساءلتُ الآن ماذا حصل لتلك الفتاة الطموحة التي كانت تبني دائما صروحا من الأحلام، تلك التي لا تشبه قريناتها في شيء، الفتاة الصغيرة ذات الذكاء الحاذق، المُتّسِمَة برزانة ورجاحة عقل قلَّ لها النظير، تلك التي تجد حلا لكل مشكلة المهذبة اللطفية التي تملك عقلا مرنا يتماشى مع كل العقول التي يجالسها.

ربما تغيُّرُ ذاتي وتحولي لكتلة من الكآبة والصمت المُطبِق مَرَدُّه إلى أني حلمت؛ لقد حلمتُ كثيراً ومشيتُ مع السراب، سرابٌ من الأوهام التي صدّقتُها وعشتُ في كنَفِها أوهام من الأماني المستحيلة. لِمَ كان عليّ أن أحلم لتلك الدرجة، لما كان عليّ أن أتجاوز سقف الأمنيات، ترى هل كان علي أن أحلم أحلاما صغيرة كتلك التي كانت تتغنى وتتباهى بها صديقاتي.

لو فعلت ذلك لعشت هانية البال مرتاحة الضمير مثلهن تماما، لعشت حياة عادية أمضيها بين الطبخ والكنس والغسل والاهتمام بالأطفال فقط طبعا هو عمل شريف وعظيم لو أتقنته الواحدة منهن وعملت فيه بكل تفان وإخلاص لضمنت مقعدا في الجنة العالية لدى مليك مقتدر وتوفى أجرها بدون حساب جراء عملها ذاك ا ليس هذه غايتي أيضا، وغاية جميع الخليقة الفوز بمكان أفضل في الخياة الأخرى هذا ناهيك عن الثواب الدنيوي المتمثل في إخراج أطفال أسوياء إلى الوجود تنتفع بهم الأمة وهي تستبشر خيرا بهم في الوقت الذي يعج المجتمع بمن يجاهدون ليضعوه في أعلى درجات التخلف والتقهقر؛ حسنا الجنة هي مرادنا جميعا إذن لما كان علي أن أغير من الوسيلة الممكن إدراكها بها.

ولكن لوْ عشت تلك الحياة لصرت نادبةً حَظّي أكثر مما أنا عليه الآن، فأن أحاول تحقيق ما بجعبتي من أحلام مجرد محاولة ولو لم تنجح خير من أن أقبع في البيت وأصبح أسيرته الدائمة، وأسمح لإنسان آخر أن يتحكم في كل تصرفاتي وحتى أفكاري أيضا تصبح مقيدة في حضرته يحرسها بشكل جيد ومحكم حتى لا ينفلت جزء من حلم منسي وأتعرض لعقاب لفظي أو ربما حتى جسدي على جرمي ذاك، لا يمكن أبدا أن أرضى بحياة هؤلاء النساء اللواتي يعدن إنتاج نفس حياة من سبقهن من أجيال دون أي تغيير يذكر حتى على أوضاعهن المأساوية، فهن لم يناضلن البؤوس ولم يكافحن للأيام خاج أسوار المنزل، النادبات لحَظّهِنّ اللواتي تأخذهن رهبة قوية ويخفن من أن يفصحن عن بعض امانيهن حتى مع ذواتهن خشية أن يسمعهن الحائط فيشي بهن إلى أزواجهن ويجلبن الويل لأنفسهن، اللواتي اخترن حياة هادئة ووديعة كن يعتقدن أنها الحياة الجميلة الملونة بأبهى الألوان، لا أبدا لم أكن لأسمح لنفسي أن تعيش وفقا لذلك أن تتخلى عن أحلامها كليا ولا تحصل حتى على شهادة واحدة تخوّل لها على الأقل العمل ولو بأجر زهيد.

أعترف أنني لست نادمة في دواخلي على عدم اختيار تلك الحياة، لم أكن لأستطيع مجاراتها في جميع الأحوال نفسي الأبية لن تقدر على ذلك، لقد كانت تطمح دائما إلى المعالي ولم تعي يوما أنها قد تخسر نفسها وهي تحاول تسلق سلم النجاح ذاك الذي عقدت العزم على تخطي كل درجاته مهما قست لم تعي ولم تتوقع أبدا أنها قد تخسر نفسها لدرجة تتمنى فيها الموت.

لقد تهت مني عن نفسي فعلا هي أكثر عبارة تمثلني، صرت هشة مثل ريشة في مهب الخوف الدائم أخذتني الدنيا بعيدا جدا أتسائل مع نفسي وأقارنها بما كانت عليه وما آلت إليه أمورها الآن هل فعلا أنا هي تلك الفتاة الصغيرة الحالمة التي كنتها يوما ما، لما تمكن مني اليأس أو بالأحرى لما سمحت له بأن يتمكن مني ويسرق مني كل ما هو جميل ويطعنني بخناجر الانكسار، فيتركني غارقة في بركة من دماء الحسرة والندم والقلق الذي ينهش ثنايا الروح نهشا ويحولها لبقايا أشلاء متناثرة لا تصلح لشيء تتنتظر مجيء الموت الأكبر فيجمعها كلها ويرحل وترتاح من كل الأكدار التي جرعتها إياها الحياة طوال السنون الماضية، تتحرر من كل تلك الأصفاد التي كبلت بها منذ ردح من الزمن .
فعلا أتساءل مليا هل أنا هي تلك التي كان يثني عليها الجميع رغم طيشي وشغبي، تلك الطفلة التي كل ما رآها أحدهم تنفرج أسارير قلبه مرددا هاهي الأميرة الصغيرة صاحبة الحكم البليغة قد أتت ويامرحى ومرحبا بها، تلك التي كانت تملأ الدنيا حبورا وسرورا التي لم يكن همها سوى رسم الضحكات على الأفواه ولم الجمعات وعقد الجلسات ليستمعوا إلى نكاتي السخيفة التي تجعل الواحد منهم ينفجر ضحكا مع علمي المسبق أنهم على الأرجح كانو يضحكون على طريقة روايتي لها وليس على النكتة ربما شكلي وأنا أروي تفاصيل النكتة هو ما يبهجهم وتعلو وجناتهم ابتسامة تطول لردح من الزمن.

من أنا الآن فعلا بِتُّ لا أعرفني سيلا من الدموع ينهمر من مقلتي لا أملك أن أحبسه لا سبيل إلى ذلك، ولكن هذا يكفي لقد احترقت بما فيه الكفاية كدت أن أتحول لحفنة من رماد لا تنتظر سوى هبة ريح خفيفة لتنثرها بعيدا وتمحو لها الأثر كليا كأنها لم تكن، لما جلد الذات بهذه الطريقة القاسية، أعترف أنني لست راضية لما وصلت إليه، لم أحقق ما يستحق الخلود أو ما يمكن أن يطلق عليه إنجازا، ولكن هذا يكفي الآن علي أن أنعتق من كل ما حبست نفسي فيه وأخرج من قوقعة لوم النفس وجلد الذات التي سجنت فيها وأن أخرج إلى الكون الفسيح يستقبلني بكل فرح وبهجة، وأعانق الحياة وأحيا على أمل أن الأوضاع ستتغير يوما ما وأحلامي لا محالة سوف ترى النور ولو من ثقب الباب الضيق المهم أنها لن تبقى أسيرة الظلام طوال حياتها، سألزم الدعاء وقلبي كله يقين أن ربي محال يتركي هكذا مؤكد سيرأف بي ويرحمني ويعينني على المضي قدما في طريق الحياة رغم وحشته ووعورة مسالكه.

عندما يذبل الزهر

حسناء المرابط

مدونة مغربية

‫2 تعليقات

  1. يوح جميل رغم الحزن المخيم عليه إلا أنه شجن واقعي يخالج كل فتاة خاب أملها في حلم ما أو مات فيها إحساس ما أو اغتصبت ثقتها من أقرب المقربين…
    تحياتي لقلمك الحزين و أنتظر حبره في بوح أجمل بصيغة متفائلة و طابع مرح يحكي لنا عن فرح أو نجاح أو صورة لذكرى حلوة ممزوجة بألوان الحياة 🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *