هشاشة الإنسان في زمن الشقاء

العودة إلى الذات

عادة ما نسائل أنفسنا حول ما إذا كان العالم اليوم مقيدا، شديد السذاجة، يجعلنا تائهين، ضالين الطريق؟ أم أن الأمر يحتاج إلى افتحاص مسلماتنا والقول بأن العالم اليوم يعيش على صدى النجاح وتزكية وجودنا على نحو لا نشعر فيه بالشقاء، بل على أساس السعادة الأبدية؟

لم يكن في دهاء الإنسان، ما سيؤول عليه الوضع هكذا، منذ علاقته بالطبيعة، لحظة استكشافه المبرر لحفظ البقاء وتزكية وجوده، أو بالأحرى عندما استطاع الإنسان أن يقف، وينظر أبعد من وجوده: يصنع وينتج ويستهلك، ظنا منه أنه الخيار الوحيد، وسيبقى كذلك. لعل لحظة الاكتشاف الأولى للذات الإنسانية طبعت نفسها على أنماط العيش، والاكتفاء الذاتي، وتحقيق الاستقرار النفسي، ولو للحظة من الزمن.

حتى وجد الإنسان نفسه في عالم مجهول لا يقدر على مجابهة أهواله الملازمة له، تائها بين أسرار الكون؛ إذ يقول بروية: “ما هذا الذي يحدث”، على أمل التخفيف. كم هي كثيرة الخطابات والأصداء التي يسمعها هذا الكائن، الذي لا يقدر على مجاراة عصره الجديد، الكلمات تتكاثر، والآراء تتصادم بين الفينة والأخرى، ربما هي النهاية التي كنا نتحدث عنها سابقا، حيث نهاية العالم التي لا مفر منها، إنه الأمر الموعود الذي تنتظرنا منه حياة أخرى، بعدما لم تفي هذه الحياة بوعدها، ألم يحدثنا أفلاطون عن عالمين: عالم سفلي وعالم علوي، الأول لم يستوفي بمطالبه حقيقة، والثاني قد يجعل لنفسه بداية جديدة، لعل الإنسان يتصالح مع نفسه.

هشاشة-الإنسان-في-زمن-الشقاء
صورة تعبيرية

قد تُشكل التجارب السابقة التي عاشها الإنسان، فرصة لتجديد رباطه مع عهد جديد، يتوافق والعالم اليوم الذي أصبح يسير بوتيرة أسرع مما هو متوقع، حيث أصبحنا نضيف فيه سرعة إلى سرعة لا نهائية، ليس هناك استرخاء. لعل المرحلة السابقة تزامنت مع تقدم العلم الحديث من خلال دراسته للظواهر الطبيعية، حول بنية الكون، فكان من المسلم به أن رافق هذا العلم ميولات الإنسان وتوافقه مع التقنية الحديثة كونها تفي بأغراضه، وتحقيقا لحاجياته في تقصي المعلومة وتسهيل دورها كمرادف للعقل، وعلى خلاف ذلك فإننا تناسينا دور العقل، ومراجعة أنفسنا على نحو نصنع الأمل بدل الشقاء، لأن أصداء العالم اليوم كلها أضحت عبئا على هذا الكائن الضعيف، المحدود في الزمان والمكان. ألم يحدثنا ميلان كونديرا “أن الإنسان عندما ظهر عصر السرعة قد خول ذكاءه إلى الآلة“. إن الأمر في وضعية حرجة نوعا ما أمام العقل، باعتباره ملكة في يد الإنسان، استطاع من خلاله أن يعلو على درك الحيوان، إلى ذلك الإنسان المثقف الذي يعي ذاته، ووجوده، على أمل التخلص من الماضي المرير، والبدائية المتوحشة، أي الإنتقال من اللانظام (الكاووس) والحفاظ على النظام (الكسموس).

القول بالتجاوز أمر لا محيد عنه إذا ما استحضرنا حداثة الإنسان اليوم، حيث استطاعت التقنية أن تسلبه كل شيء، ربما أردته سجينا ومقيدا بها، حتى إنه لم يعد هناك وقت شاسع للتفكير بشكل حر ومستقل. إن التقنية فعلت فعلها حينما سلبت من الإنسان خصوصيته، وابتعد عن هويته، من خلال العودة إلى الذات والتصالح معها. إنه (الإنسان) كان يعيش في عبثية وفوضوية، أضحت أفكاره تعبيرا عن واقع إنساني مستلب من قبل قوة فوق كونية، تتجاوز قدرته المحدودة، فحينما نقرأ للكاتب والمسرحي “صمويل بيكيت“: فإننا نرى شخوص مسرحياته تعيش في عبث الانتظار، بين الفرح والبؤس، والبحث عن القدر النهائي للتخلص من شقاء الحياة، إنه انتظار “غودو” لفسح المجال تجاه حياة أخرى مليئة بالسعادة، حتى تنتهي المسرحية بدون حضور الشخص المخلص، لتعيش هذه الشخصيات في مونولوج أبدي، أي في صمت ووحدة، وقدر اللاعودة.

هكذا هو الإنسان اليوم، دائما ما كان يعيش على أمل الانتظار في عالم مشؤوم، حيث ليس هناك قدر، إلى عالم قد يعلو فوق كل العوالم المحتملة، ويصبح الأمر ممكنا إذا ما استنجدنا بفكرة الخلاص الأولى، بالعودة إلى الذات والتصالح مع النفس، والتغني بروح الأمل، من أجل بداية عهد جديد، تجاوزا للمعتاد.

هشاشة الإنسان في زمن الشقاء

هشاشة الإنسان في زمن الشقاء: العودة إلى الذات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *