أنا حمار أفكر، وأنا إنسان لا ينطق

قراءة وتحليل

نظرت في مرآة، فإذا أنا حمار كامل الأوصاف، لا أختلف عن الحمير إلا في شيء أضحى مصدر معاناتي هو قدرتي على التفكير، إذ كان الأمر سيهون لو حرمت التفكير وعشت وسط الحمير لا أختلف عنها في شيء، والحال أني سوف أعيش وسط الحمير حمار يأتي ما تأتي ويحمل من الأثقال ما تحمل، ويختلف عنها في شيء، قدرته على التفكير، ويؤلمه ألا يحسن التعبير عما يجيش به صدره من أحاسيس ويمتلئ به من رؤى. وها هنا تبدأ مغامراتي التي أريد أن أبثك إياها أيه القارئ فلا تنأ عني.

هي كلمات وأخرى، تقودنا إلى فرضية؛ ماذا لو استيقظت يوما ما، ونَظرْتَ في المرآة، لتجد نفسك في هيئة حمار؟ هذه هي المسلمة التي إستهلّ بها الكاتب حسن أوريد الصفحات الأولى من روايته سيرة حمار، والتي تعتبر من أروع روايات الأدب المغربي.

قبل الشروع في سبر واستكشاف أحداث الرواية، علينا أولاً أن نسجل، أن فكرة جعل الحمار بطلا أو على الأقل مُحركا أساسياً لعملٍ روائي أو قصصي، ليس بالأمر الغريب عنا، نظرا لحضور نفس الفكرة في عمل الكاتب الأمازيغي أفولاي أو المعروف بأبولو، المُعَنوَنَة «بالحمار الذهبي» أوّل رواية في تاريخ الإنسانية حسب مورخي الأدب. وتتمحور حولَ شابّ أمازيغي مُسِخَ في هيئة حمار عن طريق الخطأ، غير أنَّ عقلهُ ظلّ عقلًا بشريًّا، لتطور أحداث القصة بمغامرات هذا الحمار، ليتم اختطافه من قِبَلِ لصوصٍ، ليستطيع الهرب فيما بعد، نظرا للمعاملة السٌيئة التي كان يتلقاها. ليفتح هذا العلم الأدبي مجالا أمام الروائيين فيما بعد، ليتخذو من الحمار بطلا لرواياتهم.

وهذا ما سنجده واضحا تماماً في كتاب توفيق الحكيم بعنوان «حماري أنت لي» ورواية «مزرعة الحيوان» للروائي البريطاني جورج أورويل، فضلا عن رواية «المسخ» للكاتب التشيكي فرانز كافكا، ولا ننسى أيضا رواية أوريد نفسه «الأجمة» وهي على لسان الحيوان، وغيرها من الأعمال الروائية التي تدخل ضمن هذا الصنف. والواقع أن الحِمار له دورٌ مركزي في الأدب العالمي، وبطبيعة الحال يُبرز نفسَه كشريكٍ في الترحال، وكاتمٍ لأسرار صاحبه، وهي في الحقيقة مكانة لا تقتصرُ فقط على الأدب، بل حتى في الثقافات المجتمعية، نجد الحمار يضرب به المثل سواء بالإيجاب أو السلب، علاوة على تحمله أعباء الحياة، والصبر والجلَد؛ بمعنى أن قيمة الحمار تتجلّى في كل مجالات الحياة الثقافية والإجتماعية وحتى الدينية.

الرواية التي كرّست لمعاناة البطل في مرحلَتِهِ الحِمارية، وقد ظهر ذلك جليا في الضرب والقهر والحرمان من الأكل، ناهيك عن حمل الأثقال، والتهديد بقطع الخصي، والرجم، وتقديمه من قبل صاحب السِّرك لمبارزة الأسد، وغيرها من المظاهر التي تستفز مشاعر الإنسان. ومن تم يمكن القول أن هذه الرواية، ليست سياسية، وليست تاريخية، ولا تعبّر حتى عن جانب من التجربة الذاتية للكاتب، بقدر ما هي رواية أنثروبولوجيا تعبر بالأساس عن أزمات الإنسان الروحية والأخلاقية والسلوكية، وإن كان المجالين الذين ذكرتهم سلفا حاضرين بقوة في جل أعمال أوريد نذكر منها: رَواء مكّة وربيع قرطبة…

هاجس حسن أوريد هو تسليط الضوء بالدرجة الأولى، عن تاريخ المغرب الأمازيغي (السكان الأصليون لمنطقة شمال أفريقيا)، إبّان السيطرة الرومانية، أي إعادة الإعتبار للتاريخ المغربي أو على الأقل جزء منه، من خلال تركيزه عن الأجداد، وتاريخهم، وهويتهم، وتقاليدهم، وطقوس العبادة، مُوظفا كلُّ ذلك في قالب سردي بالإعتماد على الإستعارة في ذكر الأماكن والشخوص؛ وذلك من منطلق أن تاريخ المغرب لا يبدأ كما يذهب الكثيرون من تاريخ وصول عقبة بن نافع، بل أن المغرب له تاريخه قبل ميلاد المسيح، بل قبل ظهور الإسلام في القرن السابع ميلادي.

من هنا نلاحظ أن المناطق التي اعتمدها الكاتب في الرواية، موريطانيا الطنجية، قرطبة، روما، شرشل، تين جيس…إلخ، فهي كلها أماكن لها دلالات من الواقع الإجتماعي والسياسي والاقتصادي للإنسان. لكن تبقى مدينة أليلي (بالعربية وليلي) لها دلالة وأهمية خاصة، بٱعتبارها منطلق ما قد يسمى الدولة المغربية، بتأسيس مملكة الأدارسة. ناهيك عن قبيلتي بني سنوس (مستنبطة من أسنوس الحمار)، وبني ييس (من أييس أي الخيل).

ولأن أي عمل روائي، يستدعي توظيف الشخصيات، لما لها من أهمية بالغة في البناء السردي لأحداث الرواية، ركّز أوريد بالأساس على شخصية أذربال وأسنوس، وكذلك المرأتين.
أذربال: هو شاب عاش في مدينة أليلي عاصمة موريطانيا الطنجية، وانتقل إلى حواضر ومدن كبرى، نالَ حظَّا من المعرفة، وتعلّم في أرقى معاهد الموجودة بروما وقرطاجة (تونس الحالية)، لينغمز في العمل السياسي؛ لكن سرعان ما تحوّل إلى حمارٍ من نوع متميز، قادرٍ على التفكير وإعمال العقل، ليصبح في المنزلة بين المنزلتين؛ لا هو بحمار كامل، ولا هو بإنسان كامل.

الحمار أو أسنوس: هي شخصية رافقتنا طوال الرواية، وظفها الكاتب، لتكشف عن خبايا وأفعال الناس، وكذا تقاليدهم، وشعائرهم، وأساطيرهم، دون أن يدركوا أنه يميز، ويلاحظ، ويقدم تأويلات لكل ما تراه أعينه بٱستعمال ملكة العقل، التي تميِّزُهُ عن بقيّة الحمير. ليدخل في هذه المرحلة في دوامة التفكير، وبدأ يطرح أسئلة فلسفية، ووجودية بالدرجة الأولى.

حاتبوت: هي كذلك تعتبر من الشخصيات التي حركّت مجريات الأحداث من خلف الستار، ستنجح في تحويل البطل -العنصر المفاجئ في الرواية- إلى حمار، بعدما عجزت عن تحويله إلى حبيب في الواقع، كما ستتحول هي الأخرى إلى أتان (أنثى الحمار). ولعلّها الشخصية الأكثر عمقا من سيدتها تيوزيس، هذا ما يظهر جلياً في نهاية الرواية في حوارها مع أذربال، وقد اعتمدها الكاتب في روايته كرمز للحضارة المصرية-الفرعونية.

تيوزيس: هي امرأة في الأربعينيات من عمرها، ذات جمال وذكاء، أرادت الهرب من المدينة إلى مكان، لا تطاله سلطة زوجها أكتافيو، هو رجل سياسي، وعضو في مجلس الشيوخ، أنجبت منه ثلاث أبناء: يوليوس (السياسي)، وأوفيد (مغنية معروفة في مسارح روما)، وأخيرا أصغرهم ليسيوس.

في هذا الصدد ينبغي التطرق لأهم المفاهيم التي جاءت بهم الرواية، أولا: تيمة الحب التي كانت سببا رئيسيا في تحويل البطل إلى حمار، بعدما وقع في حب تيوزيس، وفي الحقيقة، ليست الوحيدة التي أحبّته، فخادمتها حاتبوت أيضا أحبّته، وأخفقت في ذلك خوفا من سيدتها. ثانيا: التحول، وسنحدده في ثلاث مقاربات صورية:
أ- من حيث اكتشاف المظهر، في التحول الأول، البطل تحوّلَ أمام مرآة، أما التحول الثاني أي التطهير، فقد تحسّس جسمه وأعضائه ووجهه بيديه، أي أنه كان حقيقة وجودية، وليس مجرّد انعكاس في المرآة.
ب- من حيث الزمكان، في التحول الأول إلى حمار؛ حَدَثَ في بداية الليل، أما التطهير فقد حصل قبيلَ الصبح.
ج- من حيث الشّاهد، في التحول الأول كان الإنسان (أي تيوزيس وحاتبوت)، أما في التحول الثاني فكان الشاهد هو الطبيعة، بمختلف عناصرها (النهر، الكهف، الجبل…). ثالثا: السفر في الذات من المفاهيم المحورية في هذه الرواية، حيث مرّت رحلة السفر هذه عبر ثلاث محطات رئيسية، بدءا من أزمة الهوية، مروراً بالسؤال الوجودي، ووقوفاً عند لحظة إستعادة البطل إنسانيته.

وهذا ما يزجُّ بنا، مباشرة، إلى بعض الإشكالات التي تم التطرق إليها في الرواية:
ماهية الإنسان: سؤال فلسفي بٱمتياز، أي ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، منها الحيوانية بالدرجة الأولى. في تعريف الفلسفات الكلاسيكية للإنسان، وبخاصة الفيلسوف اليوناني أرسطو، الإنسان حيوان ناطق أو عاقل. والفرق بين إنسان وإنسان هو كيفية استخدام هذا العقل، قد تمتلك العقل، لكنك لا تستعمله، وبالتالي يصبح كباقي أعضاء البدن؛ أي تجرأ على استعمال عقلك الخاص بالمعنى الكانطي. وهي في الحقيقة دعوة من أوريد للقارئ، إلى إعمال اللوغوس، وممارسة فعل التفكير كطقس يومي.

تأليه الحمار والخيل: تناولت الرواية طرحا سوسيولوجيا، من منطلق الجماعة التي تقدس الحمار، والتي تقدس الخيل، وهي رموز تتخذها الجماعات للتميز نفسها عن جماعات أخرى. وبطبيعة الحال هي دعوة الكاتب لمراجعة المعتقدات والمقدسات والبديهيات الراسخة في أذهان الناس والمجتمعات، من خلال إخضاعها لمبدأ الشّك، كمظهر من مظاهر التفكير، وكما يقول رونيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي: الإنسان الحقيقي هو الذي يشك ولو لمرة واحدة على الأقل منذ طفولته، مبرزا أن الشك مسألة صحية.

جدلية الأسد والقرد: وهي مقولة تقودنا إلى جدلية الصراع بين العبد والسيد، الكائِنة في كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح» وهي وصية من الكاتب، أننا بإمكاننا أن نتحرر من كل أشكال الاغتراب والاستلاب، ومن كل السيادات كيف ما كانت، شريطة التحرر من الخوف، باعتباره منبع العبودية بالمعنى الهيجيلي، ولا ريب أن التحرر الذي نجده في الرواية هو اللحظة التي قرّر فيها القرد الإبتعاد من سلطة الأسد، والإنفلات من قبضته ومن طاعته.

أنا حمار أفكر،وأنا إنسان لا ينطق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *