ماذا لو كان العدم هو الجنة والخلود هو الجحيم

قصة وعبرة

“العملية الجراحية لم تنجح”…
هذا ما كان يقوله الطبيب وهو يزيل كمامته، لم يبد أسفا وهو يخبر الممرضة أن حياتي انتهت، فقد اعتاد على مشاهد الموت وما عاد ذلك يؤثر به…
أزالوا الأجهزة الطبية التي كانت موصولة بجسدي، ثم غطوا رأسي بغطاء أبيض شفاف وهم يقولون: ” مات”…

لكن مهلا…
مازلت أرى بوضوح من وراء الغطاء الأبيض، وأسمع بشكل أوضح، أنا حي، أنا بالفعل أرى أمي وهي تركض نحوي وتزيل الغطاء وتصرخ إلى أن فقدت وعيها، أحاول جاهدا أن أرفع يدي وأعانقها، أن أخبرها بأنني بخير بل بأنني حي، لكن جسدي لا يستجيب لي، لقد عصى رغبتي، كنت عاجزا عن الحركة لكنني أرى أبي يبكي بحرقة، أرى خطيبتي وهي تعاني نوبة عصبية غير مصدقة لما يقوله الطبيب، هي محقة أنا لم أمت أنا حاضر وأعي ما يحصل، أنا بالفعل أرى أخي الصغير يحتضن أبي خائفا باكيا، وددت لو أعانقه وأشعره بالاطمئنان وأخبره أنني بخير بل إنني حي…
كان مشهدا غريبا، كنت أصرخ بأعلى صوتي” أنا حي، لا تتركوني”…
لكن صوتي لم يكن مسموعا وحركتي مشلولة بالكامل…

ثم غادر الجميع وبقيت وحيدا في ذلك المكان المظلم أتساءل: هل مت بالفعل؟ لكن ما الذي يحصل؟ هل هكذا هو الموت؟ لا يمكن ذلك لابد أن يكون هناك خطأ ما…
خاطبني صوت غريب، لربما هو صوت ملاك…
“أنت ميت، هنا انتهت حياتك، لكنك تملك خيارين، بإمكان روحك أن تظل حية بجانب شخصين وتموت بموتهما، أو بإمكانك أن تنتهي هنا وتموت روحك أيضا، وأي خيار تتخذه، لا مجال للتراجع عنه مستقبلا، إما أن تختار شخصين تلازمهما روحك إلى أن يموتا، أو تنتهي الآن، لك الخيار”

لم أحب فكرة العدم أبدا، أريد أن أبقى، هناك الكثير من الأشياء التي ستفوتني فأنا مازلت شابا، كيف سأترك أمي وأنا لم أشبع من وجهها، وأبي وأخي، وخطيبتي التي أعشقها…
سأظل هنا، فلتبقى روحي بجانب أمي وخطيبتي أود أن أحظى بوقت أطول معهما، أن أنظر إليهما كلما اشتقت للحياة…
واتخذت القرار، وبقيت….

العدم
العدم – صورة تعبيرية

في الأيام الأولى التي لازمت فيها روحي أمي، بكت روحي كثيرا لحزن أمي، ولكنها فرحت لحزن خطيبتي، شعرت بحبها كما لم يسبق أن فعلت…
ومع مرور الأيام، أمي بدأت تتأقلم مع موتي لكنها أبدا لم تكف عن النظر إلى صورتي والدعاء لي بأشياء حلوة، أما خطيبتي ففي إحدى الأيام جمعت كل ما قد يذكرها بي ورمت كل شيء، كنت أحاول جاهدا أن أمنعها وأنا أمسك يدها وأترجاها، قبل أن أتذكر بأن كل ذلك لا جدوى منه واستسلمت مكتفيا بالمراقبة.
وبعد ذلك بدأت تعتاد الحياة بل يوما بعد يوم ما عادت تتذكرني، وتعرفت إلى رجل آخر اتضح أنه سيحل مكاني….

أمي أصيبت بالسرطان، كان بإمكاني أن لا أسمع بهذا الخبر المؤلم لو اخترت العدم، لكنني أسمعه وأعيش تفاصيله، أرى أمي وهي تتألم، أراها تعيش الأرق كل يوم، أراها تبكي وفي كل مرة تحمل صورتي، آلام الكيماوي طالما شعرت أنها تخترق روحي، كنت أحترق بشدة…
حتى خطيبتي التي كان النظر إلى وجهها يريحني وسماع صوتها يجعلني أفضل، أصبحت هي الأخرى مصدرا لتعاسة روحي وأنا أراها في حضن رجل آخر تخبره بنفس الكلام الذي كانت تخبرني به، تعامله بنفس الطريقة التي كانت تعاملني بها، وتفكر به بل وتحبه…
وددت لو أهرب من كل هذا باتجاه العدم، لكنني ومع الأسف، أنا وبكل غبائي وجهلي وفي لحظة جنون، اخترت أن تبقى روحي معلقة في الدنيا…

كان يمكن لروحي أن تكون مرتاحة الآن، لكن وبسبب طمعي، ها هي روحي تحضر لوفاة أمي، متزامنة مع زواج من كانت يوما خطيبتي، لحظتها كنت أحترق وأصرخ بأعلى صوتي، ولا من يواسيني…
وها هي روحي ملزمة أن تعيش ملازمة لامرأة ما عادت تعني لي شيئا، حتى أتخلص من هذا العذاب كنت أطلب أن تموت فبتلك الطريقة فقط يمكن لروحي أن ترتاح…
لحظة موت أمي كنت أصرخ ملْء حنجرتي، أرجوكِ يا أمي اختاري العدم، لا تكرري خطئي، ولا أعلم ماذا اختارت أخاف عليها من عذاب الروح وأن يصيبها ما أصابني…

تساءلت هل يا ترى ما أعيشه بسبب أخطائي، ربما كنت أعاقب بتلك الطريقة، ربما السنوات التي بقيت روحي ملازمة لشخصين هي جزاء زلاتي، ربما شخص آخر سيعرض عليه ملازمة ثلاث أشخاص وربما أكثر من ذلك، أما الشخص الذي لم يرتكب أخطاء، قد يذهب مباشرة إلى العدم…

عندما خيرت بين بقاء روحي والعدم، لم أفكر كثيرا، لو فكرت بمنطق ما كنت لأختار هذا الجنون، هل أنا أحمق وغبي للدرجة التي أختار أن ألازم امرأة كانت خطيبتي، طبعا ستنساني يوما ما وستحب غيري وتعيش معه، هل أنا غبي للدرجة التي أبقي روحي مع إنسانة كما لو أنها ستظل مرتبطة بشخص مات؟ بدأت أشك في أنني لم أختر بل كنت ملزما، لقد اخترت ما كان ينبغي أن أختاره، لا ما كنت أريده…
ولابد أن السنوات التي ستعيشها تلك التي كانت خطيبتي، هي السنوات التي بقيت من الحكم بعذاب روحي…
فربما كان العدم هو الجنة وما أعيشه هو الجحيم…

ماذا لو كان العدم هو الجنة والخلود هو الجحيم

حسنية يقضان

حسنية يقضان مدونة وباحثة في القانون الدستوري وعلم السياسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *