أنا والأوطوبيس

مواقف طريفة داخل حافلة

ذات مساء…
وأنا عائدة من الجامعة انتظرت الأوطوبيس لساعة تقريبا، أثناء الانتظار حاولنا تنظيم الصف، كنت أقف بكامل أناقتي، بدا أن كل المنتظرين متحضرون ويقفون باحترام، وما إن وصل الأوطوبيس حتى اندفع إليه الجميع دون احترام للصف ولا للنظام، فهمت حينها أن ذلك لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، وجدتني أنا أيضا وبدون شعور أرفع أكمامي وأمسك بمحفظتي وأندفع بكامل قوتي لعلني أجد مكانا شاغرا، ولتبقى الأناقة والبريستيج في انتظار سيارة ليموزين…

لكن، ولسوء حظي طبعا، لم أجد مكانا فكنت مضطرة للبقاء واقفة وأتحمل الروائح القذرة؛ وبعد لحظات تحرك الأوطوبيس… وبصعوبة استطعت إخراج رواية كنت قد بدأت قراءتها سابقا، وحاولت إكمالها وأنا أقف في الأوطوبيس، فما الفرق بيني وبين أولئك الأوروبيين الذين تنتشر صورهم على الإنترنت وهم يقرؤون كتبا داخل الأوطوبيس…؟

وبينما أقرأ انتبهت لشاب يحدق بي باهتمام ويبتسم، لابد أنه انجذب لأناقتي المفرطة، أو أنه أعجب بحرصي على القراءة في الأوطوبيس، لكنني تجاهلت نظراته وعدت إلى عالم الرواية، بعد قليل اقترب مني ذلك الشاب، انحنى قليلا ليهمس لي بصوت خافت:
“غتجبدي التيليفون بلا صداع ولا غنخشي فيك هاد الموس”، لأنتبه للسكين الذي وضعه على جانبي الأيمن… شعرت بقطرات العرق قد بدأت تتصبب على جبيني، وكدت أتبول على نفسي، لكن حدث أن تدحرج الأوطوبيس بسبب مطبات في الطريق مما أحدث فوضى كدت أسقط حينها، لكنني تمسكت برجل أمامي، ومع أن الرواية سقطت مني استغليت تلك اللحظة وابتعدت عن اللص محاولة أن أختفي وسط الزحام… نعم، فالحفر في الطرق لم تكن عبثا، بل من شأنها أن تنقذك من مصائب أخرى..

وقف الأوطوبيس ونزل البعض، رأيت مكانا خاليا وركضت إليه جلست وأنا أتنفس الصعداء، بينما كانت المرأة ذات الخمسين من العمر تنظر إلي باستغراب، قالت وهي تخفض شفتيها: “تفوو على جيل مكيعرف حتى الاحترام”… طبعا تريدني أن أعطيها مكاني، وأعود حيث اللص سيأخذ هاتفي، لا أبدا فلا بأس أن أكون عديمة الاحترام هذا اليوم وأعود لبيتي مع هاتفي الحبيب…

الأوطوبيس
صورة تعبيرية

فجأة شعرت بيد فوق كتفي، لم أستطع أن أدير وجهي، طبعا هو اللص يريد إكمال ما بدأه، بدأت في محاولة إخراج الهاتف بكل روح رياضية، قبل أن يضع الشخص الرواية أمامي… الحمد لله لم يكن اللص، فقط شاب انتبه لروايتي التي أسقطتها وأعادها إلي، فشكرته…

عندما فتحت الرواية، وجدت رقما هاتفيا مكتوبا على الورقة الأولى، وبجانبه اسم يوسف، أدرت وجهي لأجد الشاب يبتسم، يعني هو من كتب رقمه، ابتسمت بينما أبلع ريقي بصعوبة، فكيف لذلك الغبي الوغد أن يكتب الرقم على رواية بقلم الحبر، الكارثة أن الرواية لأستاذ لي، كيف يمكنني الآن أن أعيدها إليه؟ إن حاولت مسحها ب”بالبلونكو” سيشك أنني كمراهقة بلهاء كتبت له رقمي، وإن تركته علي أن أشرح له ما حصل قد يظن أنني أنا من طلبت من الشاب كتابة رقمه…
اللعنة عليه واللعنة على الأوطوبيس واللعنة علي أنا، لأنني أردت أن أتشبه بالأوروبيين، أن أكون مثقفة، وأين؟ في الأوطوبيس…
فلتذهب الثقافة إلى الجحيم…

أدخلت الرواية إلى محفظتي واكتفيت بمراقبة الشارع من زجاج الأوطوبيس، حينها لم يتبقى الكثير من الناس، فجأة دخلت شابة في أواخر العشرين من عمرها، جلست مقابلة لي بينما تحمل ورقة، وبعد لحظات بدأت تتساقط دموعها، كان من الواضح أنها رسالة من حبيب تركها لها ذات وداع، رق قلبي لحالها..
قلت لها بحسرة محاولة مواساتها: “هو هكذا الحب يا صديقتي لا يترك لنا سوى الأوجاع، أرجوك تجاوزي، فأنت مازلت شابة والحياة كلها أمامك”.
مسحت دموعها، ونظرت إلي نظرة عميقة، ثم قالت: “وديييها فسوق راسك”؛
وانفجر الأوطوبيس ضاحكا، وضحكت أيضا، لكن في أعماقي تمنيت لو انشق الأوطوبيس وهويت تحت عجلاته، ولا بقيت في ذلك الموقف المحرج…

وفي المحطة التالية نزلت من الأوطوبيس، مع أنني لم أصل بعد إلى بيتنا، لكنني هربت من الإحراج… وما إن أدرت وجهي حتى رأيت شخصا يركض نحوي، بسبب الشمس لم أراه بوضوح، لكن عندما بدأت تتضح الرؤية، عرفت أنه هو طبعا، ومن سواه، اللص، وبسرعة البرق أزلت حذائي ذا الكعب العالي وأطلقت رجلَيَّ للرياح وأنا أصرخ بأعلى صوتي: “واعتقووو الرروح أعيباد الله…”.

أنا والأوطوبيس

حسنية يقضان

حسنية يقضان مدونة وباحثة في القانون الدستوري وعلم السياسة

تعليق واحد

  1. رائع والاروع ان اللص ساهم في جودة اخراج الرواية من قال ان ليس للصوص اي فائدة فهو كاذب.👏👏👏👏👏👏👏👏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *