وظيفة كل من العلم والفلسفة في عصرنا الراهن

أهمية ودور الفلسفة لفهم المواضيع الميتافيزيقية

يعتقد معظم الناس أن الفلسفة في عصرنا الراهن قد ماتت؛ لأنه لم يعد لها أي دور في حياة الإنسان، بحجة أن العلم الحديث قد اكتسح كل مجالات الحياة، وهؤلاء الأشخاص الذين يتبنون هذا الرأي يطرحون على معارضيهم (معارضيهم هم الذين يعتبرون أن للفلسفة دور مهم في الحياة) سؤالا جوهريا مفاده؛ في خضم هذا التقدم العلمي والتقني الهائل الذي تعرفه الحضارة الإنسانية في عصرنا الراهن، ماذا يمكن أن تقدم الفلسفة من خدمات ومنافع للإنسان المعاصر مادام العلم يستطيع أن يجيبنا عن كل الأسئلة التي تخطر في بالنا، ومادامت كل الخدمات التي يستفيد منها الإنسان في عصرنا إنما يستفيد منها بفضل العلم وليس بفضل الفلسفة؟

جوابا عن هذا السؤال لا بد أن نوضح بشكل دقيق وظيفة العلم ووظيفة الفلسفة، ومن تم نبين حدود اشتغال كل واحد منهما.

إن تحديد وظيفة العلم والفلسفة يقتضي منا أولا وقبل كل شيء، تحديد موضوع اشتغال كل واحد منهما، فمواضيع اشتغال العلم هو العالم المادي المحسوس(باستثناء بعض العلوم النظرية مثل الرياضيات)، أما مواضيع اشتغال الفلسفة هي مواضيع قائمة على التأمل المجرد في عدد من المفاهيم.

إذا كان الموضوع الذي يهتم العلم بدراسته هو العلاقات السببية التي تربط بين الأشياء في العالم المادي المحسوس، فهذا يعني أن مجال اشتغاله لا يتعدى العالم المادي، والأسئلة التي يستطيع أن يجيبنا عنها هي فقط الأسئلة التي تتعلق بدراسة العلاقات السببية في العالم المادي، مثل دراسة قوانين حركة الاجسام.

أما المواضيع التي تهتم الفلسفة بدراستها فهي في أغلب الأحيان لا يمكن دراستها بالمنهج التجريبي مثل السياسة أو الدين، فكيف يمكن للعلم مثلا أن يقترح علينا النموذج المثالي للنظام السياسي الذي يجب علينا تطبيقه في الدولة، إن العلم لا يستطيع أن يقترح علينا القوانين الوضعية التي تهتم بتنظيم الشأن العام للمواطنين لأن ذلك ليس من اختصاصه. ونفس الأمر ينطبق على موضوع الأخلاق والجمال والمنطق، ففي الطبيعة لا توجد معايير أخلاقية أو جمالية أو منطقية، لأن هذه المعايير إنسانية، لنأخذ على سبيل المثال موضوع الأخلاق، ففي الطبيعة لا يوجد شيء شرير أو شيء خير، بل إننا ننظر إلى الأشياء انطلاقا من منظورنا الخاص هذا المنظور قائم على مصلحتنا الخاصة، فكل شيء يفيدنا نعتبره خير وكل شيء يلحق بنا الضرر نعتبره شر.

ولا يستطيع العلم أن يجيبنا أيضا عن الأسئلة الجوهرية في الحياة، وعلى رأسها الأسئلة الوجودية مثل: سؤال ما معنى الحياة؟ وأين كان الإنسان قبل أن يولد؟ وأين سيذهب بعد وفاته إن كانت هناك حياة أخرى؟ وما الأنا؟ كل هذه الأسئلة وغيرها يوجد الكثير، لا يستطيع العلم بأي حال من الأحوال أن يجيب عنها.

إن الفكرة القائلة بأن الفلسفة لا جدوى منها في عصرنا الراهن لأن العلم بفضل تقدمه الهائل في كل مجالات الحياة يستطيع أن يجد حلا لكل مشكلة تعترض الإنسان وتعكر صفوه، هي فكرة غير صحيحة، ليس فقط لأن العلم لن يستطيع أن يجيبنا عن الأسئلة الجوهرية في الحياة، مثل سؤال معنى الحياة، بل أيضا لأن التقدم العلمي الذي عرفته الإنسانية قد تسبب في إنتاج مشاكل كثيرة (لم تكن موجودة في العصور السابقة) لم يستطع أن يعثر على حلول لها، كالمعضلات الأخلاقية التي تتعلق بالذكاء الاصطناعي.

ورغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حققته البشرية بتوفيرها لكل الوسائل اللازمة لتحقيق رفاهية الإنسان وسعادته، إلا أن العلم عجز عن إدراك ماهية الأشياء الجوهرية في الحياة، وكما قال هيدجر العلم لا يفكر بل يتساءل عن طريقة اشتغال الأشياء وليس عن ماهية الأشياء، بمعنى أن العلم يجيبنا عن سؤال كيف؟ وليس عن سؤال لماذا؟ فالفلسفة هي التي تجيبنا عن هذا النوع من الأسئلة؛ لأنها وحدها التي تتساءل عن الغاية من وجود الأشياء وعن ماهيتها، أما العلم فوظيفته تقتصر فقط على اكتشاف القوانين التي تحكم الأشياء في عالم الطبيعة، لذلك يكتفي فقط بالإجابة عن سؤال كيف تحدث الأشياء في الطبيعة ولا يتساءل عن ماهيتها أو الغاية من وجودها.

إن الإنسانية في عصرنا حققت كل الوسائل الضرورية لتحقيق السعادة، لكنها عجزت أن تصبح سعيدة، بل عجزت أيضا عن تحديد ماهية السعادة بمعنى تعريف السعادة، وخير دليل على صحة هذا الكلام هو الارتفاع الملحوظ لنسبة الاكتئاب والانتحار في عصرنا مقارنة بالعصور الماضية، فلو كانت سعادة الإنسان تتعلق فقط بتوفير الظروف المناسبة للعيش، لما ازدادت نسبة الانتحار والاكتئاب، بل إننا نلاحظ أن هذه النسبة مرتفعة في البلدان الراقية مثل السويد أو سويسرا، وذلك راجع من وجهة نظرنا إلى أن هؤلاء الاشخاص الذين يقدمون على الإنتحار لم يجدوا معنى حياتهم أو فقدوا معنى حياتهم، وهكذا فإن العلم قد نجح في توفير الوسائل اللازمة لتحقيق سعادة الإنسان، لكنه فشل فشلا ذريعا في تحديد الغايات الكبرى للحياة، لأن ذلك يفوق إمكاناته وحدود اشتغاله.

إن تعليق الإنسان المعاصر الأمل على العلم وإيمانه بأن العلم وحده قادر على أن يجد حلولا لكل المشاكل التي يعاني منها. هذا الأمر -حسب وجهة نظرنا- من أهم الأسباب التي أدت إلى شعور الإنسان المعاصر بالقلق والاكتئاب التي يعاني منهما معظم البشر.

خلاصة القول، مجال اشتغال العلم بصفة عامة(باستثناء بعض العلوم مثل الرياضيات والفيزياء النظرية) لا يتجاوز العالم المادي، لذلك فهو لن يستطيع أن يجيبنا عن الأسئلة التي تتعلق بمواضيع ميتافيزيقية، فالفلسفة وحدها قادرة على العثور على أجوبة (نسبية) بخصوص الأسئلة الجوهرية في الحياة، والهدف الذي دفعنا إلى كتابة هذا المقال ليس هو الدفاع عن الفلسفة، بل من أجل توضيح وظيفة كل من الفلسفة والعلم ومجال اشتغال كل واحد منهما.

وظيفة كل من العلم والفلسفة في عصرنا الراهن

Exit mobile version