محجبة في باريس

عن معاناة المُحجّبات في دول الغرب وتصاعد خطابات الكراهية

لم أكن أعلمُ وَأنا أدسّ تأشيرة العبور أن المستقبل الذي أشرئب لاحتضانه سيكون قاتما بذلك الشكل، و لم يخطر ببالي إطلاقا أن الحلم الذي غذّيْته بشغفٍ طفولي وإصرار كبير، سينتهي على شكل كابوس يصم دويّ انفجاره جحافل الطموح والجدِّ داخلي. بدا كل شيء كما رتبت له قبل سنين وكنت حينها أسير على خطوط حياتي بخطى تابثة، مثل لِواءٍ يقود حربا ضروسا محفوف المخاطر. تلك الطفلة داخلي أبت إلا أن أى حلمها ينمو ببطئ، كشروق شمس بديع يلقي بأشعته الفتية رويدا رويدا على ربوع السماء الفسيحة، ويتقدم بذات الجمال راقصا على سمفونية العصافير التي تغني بفرح للحياة أغنية بهية الكلمات شجية اللحن، لا تطرب إلا مسامع الشغوف الذي يقبل على الحياة بتفائل.

وكانت صورة برج إيفل، بشموخه ومَعدنه الصلب، وهو يأثّث منتصَف غرفتي، يذكرني بحلم سيغدو يوما حقيقة مَعيشة. كلما رفعتُ عيني التقيا به حتى يخفق القلب شوقا لمستقبلٍ آت. و لأن للطموح مَعاوِلُ من حديد تشقّ الطريق، تمكّنت أخيرا من انتزاع قبولي في جامعة بباريس. وهكذا تمكّنتُ من ضمان الورقة الأساس في مباراة الحلم، فبقي أمامي بضع خطوات حتى أظفر بالفوز الأعظم.
انطلقت في عد تنازلي للأيام التي تمر، وكان كل يوم يمر بمثابة الحطب الذي يضرم نار اللهفة في داخلي ويرميني قدُمًا للقتال في سبيل المراد. ومرّت أيام التحضير للرحلة الأهم، تلك التي ترقّبتها طويلا، وآن موعدُ اللقاء التاريخي.

مرّت الأيام الأولى بسلاسة وسلام. عرفت فيها روح الحياة الباريسية وتناغمتُ فيها مع حلمي الذي أضحى حقيقة ألامسُها وأعيش في كنفها. لكن هذا الرغد سينجلي قريباً، ولم يكن هذا التغيير في موازين الحياة متوقعا. ذات يوم خريفي يضفي عليه الحنين دفءا وشاعرية، وكانت سماؤه الشاحبة مشبعة بالحزن الدفين لذكريات الماضي، و أوراقه المتناثرة عنوانا لعبثية الحياة. خرجت كعادتي كل يوم أحَدٍ للتبضُّع، فتوجّهت لمركز تجاري لا يبعدني إلا بتسع دقائق مشيًا على الأقدام. كنت أمشي بحماس، لأن حياة الاستقلالية والمسؤولية كانت ما زالت تستهويني، إلى أن اصطدمت بحارس المركز التجاري الذي منعني من التسرب إلى الداخل ورَكنَني إلى جانبه وأمرني بالانتظار، ثم أشار إلى باقي الناس بالدخول.

باريس
برج إيفل بباريس

تملّكَني الفزع والإحراج وأنا أنظر للجموع الغفيرة التي تنظر إليّ بإذلال و تلك الأصوات التي تتهامس علي مدعية بأني مجرمة، وتلك الأصابع التي تشير إلي و تشتمني بقذارة في دعوة صريحة إلى العودة من حيث أتيت و تركهم في أمان لأنني إرهابية.

ماذا؟ أأنا إرهابية حقا؟ أأنا مجرمة كل تهمتي أنني أرتدي للحجاب؟ أهذا هو الحلم الذي أسكنته طويلا داخلي و منحته شغفي و غذيته بإصراري وناضلت طويلا لتحقيقه؟ أهذه هي باريس التي جعلتُها موطنا الأحلام والأرض التي كانت جنتي؟ الأرض التي قاتلت طويلا حتى أحيى بها؟

توقف كل شيء حولي، وفقدت قيمة الوقت وهو يتدفق من الساعة الحائطية مُعلنًا خيبتي. ثم تحسّست جسدا ضخما حط أمامي. رفعت عيناي الذابلتين ببطئ لأراه، فوجدته الحارس ذاته الذي أوقَفَني. ثم تحدث إليّ بفرنسية مبتذلة وطلب مني حقيبة يدي وكيسا ورقيا كانا بحوزتي، أفرغ الكيس الورقي أرضا في عنف، فتساقطت منه فرشاة وصباغة زيتية كنت اقتنيتها في طريقي لأكمل لوحة لمجموعة من المعالم الباريسية التي كنت أرتادها منذ قدومي، وكنت أنوي أن أعنونها بـ”لوحة الحلم” الذي انكسر كما انكسرت الفرشاة وسُكِبت الصباغة. ثم انتقل إلى الحقيبة اليدوية، و عبث بالأغراض داخلها في محاولة لإيجاد أي دليل قد يلبسني تهمة الإرهاب، الذي كان يمارسه علي في تلك الدقائق التي كانت تطول مع كل زفير أرجو به تنقية صدري من حالة شك بدأت تتلبّسني؛ بدأت أشك في نفسي وفي صفاء سريرتي التي تلفق لها اتهامات خطيرة، ومضيت برحلة شَكٍ طويلا فعرَّجت على كل تلك الشعارات التي كنا نستهلكها في غفلة فنصدّقها ونؤمن بها على اعتبارها حقيقة لا زيف يغلفها، ثم شككت في كل تلك الصور التي كانت تصور لنا الغرب في هيئة ملائكية مثالية فصدقتها وها أنا اليوم أدفع ثمن تصديق ساذج.

كنت أشعر بالاشمئزاز وأنا أراه منقَضّاً على أغراضي ويتفحَّصُها بلهفة، وطالت عملية التفتيش طويلا، فلم يجد شيئا مما كان يتطلع إليه، وزادت هذه النتيجة المحبِطة من حَنقه وحفزته على الانتقام. فانقض على كتفي و أخبرني بأنه سيخضعني لتفتيش جسدي دقيق وشامل، و أنه متأكد من أن هذا التفتيش سيسفر على الدليل الذي يتطلع إليه و يلهث خلفه. كنت حينها أعيش زهاء نصف ساعة من الترويع و التعذيب النفسي، التزمت فيها الصمت والدعاء، ثم البكاء في لحظات من الانهيار تنكهه خيبة الأمل التي أعيشها.

ويبدو أن جَلّادي عشِقَ في خضوعي وظن أن ضعفي سيمنحه القوة الكافية للعب رجولته المزعومة على عتبات جسدي. وفي تلك اللحظة التي ظن فيها أنه أحكم قبضته علي، سحبت يدي وصرخت في وجهه رافضة كل أشكال التعذيب والحجز التعسفي الذي أتعرض له، و أنني لن أسمح لأي رجل بتفتيش جسدي كيفما كان، و هذا حقٌّ يُخوّله لي القانون، إضافة إلى أن شكه في كوني مجرمة لا يمنحه حق التعامل معي بوحشية كهذه. وما كان لإصراري إلا أن يمنحني ما طلبتُه، فأشار إلى زميلته أن تتكلف بمهمة التفتيش، فقادتني إلى غرفة مجاورة لا تتسع لأكثر من شخصيْن، وطلبت مني نزع ملابسي تحت وطأة الاستفزاز والطعن وغيرها من خطابات الكراهية التي تفيض حقداً وضغينة، وشاءت سفينة قدري أن تُؤرجحني قليلا عرض البحر، و أصرت على تسليتي قليلا لكنها اختارت التوقيت الخطأ والمكان الأسوء.

لم يجدُوا شيئا مما كان يطمَعون في إيجاده، فأخْلَيَا سبيلي وتَرَكاني لحالي. لكنني كنت حينها جسدا ميتا يطفو على هذه الأرض، لا أدري ما الذي أطفأه ولا ذلك الذي سيحييه.

فما أقسى أن يُقتل المرء بأحلامه.

محجبة في باريس

خولة الفلاحي

يستهويني الحرف ويجذبني القلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *