الهروب الماكر

بعد مرور عامين على واقعة الهروب الماكر، حيث غادر المافيا مسقط رأسه بدون سابق إنذار، بعدما توالت عليه الأعمال الشاقة ككل صيف دون أن يسافر إلى أية مدينة ويجول فيها رغبة في التنزه، وتغيير الجو في زمن كان أترابه يجولون المدن ويشاركون في المخيمات الصيفية، كان الشاب يزاول مهنته الصيفية ليجود على والديه بكسرة خبز تساعدهم في ظروف العيش. كما هو الشأن عند بعض الأشخاص من نفس المنطقة الذين يزاولون عمل الفلاحة والبناء بكثرة ومن غير هذين النشاطين فشباب البلدة يعانون البطالة بالرغم من حصولهم على شواهد عليا. (منطقة تزارين توجد بالجنوب الشرقي المنسي وهي منطقة معروفة بالحناء). ومن أجل أن يحارب ذاك الشهم بدوره هذه البطالة ويوفر تكاليف الدخول المدرسي المترقب بعد شهرين من العطلة الصيفة. ظل يكابد حرارة الشمس لجمع المال الكافي لشراء مستلزماته من كتب وملابس ليحظى ببداية دراسية موفقة، هذا ما كان يفعله الشاب طيلة السنوات الماضية.

مَرّت عامان على تلك الواقعة وكان يومها يوم الأحد، ليستيقظ هذا الشاب باكرا ويأخذ درجاته الهوائية ليتجه صوب المنزل الذي يقطن فيه والديه، ويخاطب أمه الحنونة والمشفقة عليه في شتى الظروف… بينما كان يبحث عنها في أرجاء البيت، سمعت الأم صوت ابنها وهي تقوم بطهي الخبز بالطريقة التقليدية الطبيعية باستعمال عود الأشجار فأخبرته عن مكانها…، ذهب إليها الشاب بعد سماع صوتها الرنان الذي وصل صداه إلى باب المنزل ليقبل رأسها يعد إلقاء التحية، ويبادلها أطراف الحديث حتى انتهت من إعداد الخبز وأعدت مائدة الفطور ليشارك بعضهما الإفطار.

بعدما أكل ما لذ وطاب استعد عمر ليشد الرحال إلى مركز تزارين حيث كان يبيع البطيخ هناك، ودع أمه بتحية أحر من الجمر بعد معانقته لها أشد عناق مطالبا منها الدعاء له والتيسير، فهذا العناق ليس مألوف عندها إلا وأنها كانت تظن أمه ذاهب للعمل، بينما هذا الشاب غير قادر على مواجهتها وإخبارها أنه يود مغادرة بلاد الفقر، والظلم، والقهرة، ليفكر في الهجرة إلى بلاد الغربة لعله يجد فيها الأمل في كسب لقمة العيش الرغيد الذي لم يجده في مسقط رأسه.

غادر المنزل وعيناه مطرقتان إلى الأرض والدموع تذرف من عينيه وتخطوا معه كل خطوة يخطوها كموجة تتابعت أختها في بحر هائج من الأحزان، ليعود أنداك إلى بيتهم الأصلي حيث ترك إخوته في ذاك الصباح الباكر ليقوم برؤيتهم مجددا ويودعهن بطريقة غير مباشرة، بعدما أمزج بين الجد والهزل في كلامه ليذهب إلى غرفته ليجمع ملابسه في حقيبة صغيرة مزركشة لكي لا يشك أحدهم في سفره. وبعدها اتجه صوب المركز الذي توجد به الحافلة لنقل المسافرين ليبحث عن المسؤول في المكتب ويقطع تذكرته في نفس اليوم…

ارتفع صوت الآذان بالمنطقة والحافلة مجهزة للانطلاق بعد صلاة الظهر، توضأ الشاب في مرافق المسجد ليحظى بصلاة الظهر جماعة في المسجد القريب من المحطة، وأتبعها ركعتي الاستخارة لعل هذا السفر يمر بأحسن الأحوال.
هنا ستبدأ الحكاية بعدما تحركت عجلات الحافلة من مكانها ولوعة الفراق لازلت تعاتب الشاب ليزيد بحر همومه هيجانا بالبكاء، لتنطفئ هذه الأحزان بشكل تدريجي بمجرد مروره من أماكن لم يكن يعلم بسر جمالها؛ كالريصاني وأرفود مروراً بالراشيدية، بعدما توقفت الحافلة في محطتها بضع دقائق لتنقل بعض المسافرين هناك حيث كانت من بينهم احدى الحسنوات التي ظل الشاب يراقبها لحظة ركوبها أنداك في المحطة لتبادله غمزة كان قد أرسلها لحظة جلوسها في الكرسي المقابل له، لتجود له بمثلها مع ابتسامة جميلة تحمل في طياتها كل معاني الإعجاب من الوهلة الأولى. أصيب المعجب أنداك بالدوار ولكن لا يعرف هل سببه إثر توقف الحافلة؟ أم ذهوله في رؤية تلك الفتاة التي هيجت مشاعره في الحافلة؟ ولحسن الحظ كانت المناظر التي مر بها ذات طابع إيجابي لينسى الغثيان الذي أحس به في الحافلة حتى وصلت الحافلة لمنطقة زايدة المعروفة، حيث سيرتاح المسافرين من تعب السفر وطول الطريق وليتمكن المسافرين من تناول وجبة عشاءهم ليستأنف السائق طريقه.

مركز-تزارين
مركز تزارين

بعد ذلك تفاجئ الشاب باتصال يباغته كان كالصاعقة، والمتصل هو خاله الأصغر المعروف بتوبيخه له كلما تجرأ وقام بفعل لا يليق به، حيث سمع منه انزعاجه وخوفه عليه ليطمئن عنه ويعلم مكانه بعدما أخبره أنه على مثن الحافلة مسافر إلى مدينة أخرى ليعلن خاله أنداك غضبه عليه وتليه مجموعة من التوبيخات إثر ترك كل أفراد العائلة يبحثون عنه هنا وهناك… لم يتحمل الشاب تلك التوبيخات فقام بالتظاهر أن الخط لا يسمح له بالاستماع لكلامه ويقوم بقطع الاتصال في وجهه… ولم تمر سوى دقائق معدودة بعدما تحاور الخال مع أفراد أسرته ليستقبل الشاب مرة أخرى اتصالا أخر من خال والدته الذي يشفق عليه أحيانا وينصح في شتى أموره، وقد وبخه هو أيضا فأخبره بالظروف المزرية التي مر منها أفراد الأسرة جراء هذا التصرف الذي قام به الشاب، ليولد في نفوس الأسرة حالة من الخوف والهلع وبالخصوص والديه اللذان حاولوا الاتصال به مرارا وتكرارا دون جدوى، مع العلم أن الرقم الذي بحوزت أبيه كان خارج التغطية….

بعد إقناع الشاب بالعودة للبلدة بدأ بحر أحزانه يعود بموجات الدموع التي جعلته يتخيل الحالة التي وصلت إليها عائلته حول هذا الهروب الماكر. وقبيل الفجر وصلت الحافلة إلى محطة الناظور حيث لا ملجأ يلجأ إليه، مما دفعه لأخذ حقيبته واتجه لمكان يحضنه لعله ينام فيه قليلا. بدأ يسير في الطريق حتى جلس بجانب الرصيف يتأمل المارة في تلك المدينة وهو يستمع لموجات البحر تنصدم في أحجاره، والطيور من حوله تغرد حتى داهمه النوم ليستيقظ على ضجيج السيارات بعدما أشرقت الشمس، وكانت المحطة قريبة منه ليعود أدراجه إليها بغية شراء تذكرة العودة للبلدة التي كانت فكرتها محزنة له وصادمة لتوقعاته.

لجأ المتمرد للمحطة وإذا بأصحاب التذاكر يتهافتون بأعلى صوتهم حول المدن التي تكلفوا بها مما جعل أولئك الوسطاء يسيرون بجواره كل منهم يسأله عن وجهته، مما جعله يشك في الأمر ذهب مباشرة لمكتب التذاكر واشترى تذكرته للعودة ليشد الرحال إلى مسقط رأسه مع نفس السائق…. أثناء عودته استمتع مجددا برؤية المناظر الجذابة التي لم يراها كالجبال الشاهقة المكسوة بالأشجار والأزهار حتى توقفت الحافلة بمدينة إفران بجانب حديقة مليئة بالقردة، وكانت تلك الوقفة فرصته لرؤية القردة على أرضية الواقع.

بعدها استأنف السائق طريقه وأحيانا يتوقف في محطات متتالية حتى وصل إلى المحطة الأخيرة التي يقطن بها الشاب ليبدأ حكاية أخرى، والتفكير بأية طريقة سيواجه عائلته بعدما وصل إلى بيته الأصلي الذي وجد فراشه ينتظره ليسترخي قليلا، ويتفاجئ أن أخته بجانبه تنتظره أن يستيقظ لتعانقه لشدة خوفه عليه…. طلب منها المسامحة كما طلبها من بقية أفراد الأسرة غير والديه اللذان لم يراهما بعد، فالأمر هنا صعب للغاية لأن والده أخبر إخوته بأن يخبروه بجمع أغراضه وأن يغادر البيت بعد هذا الفعل الذي ارتكبه دون إذنه.
وبينما كان يفكر في الذهاب لزيارة والديه طلب منه ابن عمه أن يرافقه لكي يطلب من أبيه العفو والصفح مما فعله، وكان الأمر كذلك بعدما ذهب الجميع عند والديهم رفقة ابن عمهم، دخل الشاب إلى المنزل وسار يجري نحو أمه التي لمحها بقرب الباب ليعانقها عناق ذاب فيه الحزن وحضر فيه الدفء والحنان، كما حاول أن يعانق أباه إلا أن الطرف الثاني لم يعره أي اهتمام ولا يود معانقته إلا بعد تدخل الأشخاص الذين كانوا في تلك الساعة ومن بينهم فاطمة لحو جارتهم الحنونة… استسلم الأب لمطالب أبناءه ليعانق ابنه أيضا معلنا له عن حزنه وخوفه عليه بعدما بدأت دموعه تعلن نزولا خفيفا بالرغم من قساوة تفكيره، فلولا تدخل إخوته وابن عمه مع جارتهم في هذه المسألة لما تركه يدخل مرة أخرى لذلك البيت.

وفي تلك اللحظات الحميمية بعد سماع كل ما جرى للشاب في هذا الهروب الماكر عادت المياه لمجاريها بعد إعلانهم له بأن التصرف الذي قام به ما هو إلا تصرف مراهق أحس بالملل في بلدة ضيقة لا وجود لمرافق تجعله يلجأ إليها لتغيير مزاجه من حال إلى أخر. وعلم من هذا السفر مرارة الابتعاد عن الأهل والأحباب دون إخبارهم وما يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة، والجميل في الأمر أن هذه التجربة ولدت في نفسية الشاب مجموعة من الأمور التي يجب أن يكون على دراية بها، وهو الأن يخالط مجموعة من الثقافات المتعددة داخل أسوار الكلية ليُميّز بين الصحيح والخطأ ومن الجيد والطالح من أموره الشخصية.

الهروب الماكر

إسماعيل ايت لحساين

أعمل مدرس للغة العربية بمدرسة خاصة، وطالب باحث في سلك الماجيستر بكلية الأداب والعلوم الانسانية جامعة القاضي عياض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *