القضاء الدستوري الأمريكي

بين رقابة القوانين وتحتيم الحريات

ارتبط القضاء الدستوري بنمو وتطور حركة الدسترة الجديدة التي تهدف إلى إخضاع أعمال السلطات العامة بمجموعة من الضوابط المتضمنة بالنص الدستوري، وقد برز كنتيجة متزامنة مع الطفرة النوعية التي عرفتها الديمقراطية، وأيضا كحل مؤسساتي ضد الأنظمة التي تتسم بتعزيز وتقوية السلطة التنفيذية.

والملاحظ أن عملية تأسيس الرقابة على الدستورية استندت على منطقين متباينين عكسا تجربتين مختلفتين، الأول الأنموذج الأوروبي الذي تشكل بفعل الأبحاث النظرية ل “هانس كلسن Hans Kelsen” والذي على أساسه تشكلت الرقابة على دستورية القوانين في التجربة الأوروبية، بدءا بدستور النمسا لسنة 1920، هذا الأساس النظري للمراقبة أسس لخلق آليات قانونية موجهة لضمان مطابقة القواعد القانونية الأدنى للقاعدة الدستورية، لكن هذا الأساس يختلف في الأنموذج الأمريكي، حيث ارتبط هذا الأخير بالعمل الاجتهادي للمحكمة العليا الأمريكية من خلال “قضية ماري بوري ضد ماديسون”؛ فكيف ساهمت المحكمة العليا الأمريكية في نشأة وتطور القضاء الدستوري في الولايات المتحدة الأمريكية؟ وما هي أساليب الرقابة على دستورية القوانين فيها؟.


الفقرة الأولى: نشأة وتطور الرقابة على الدستورية في الأنموذج الأمريكي
لم ينص دستور الولايات المتحدة الأمريكية على الرقابة على دستورية القوانين، ولعبت المحكمة العليا دورا رئيسيا في نشأتها وتطورها، وإذا كانت المحكمة العليا قد تصدت لدستورية القوانين منذ 1796 في قضية “هيلتون” ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

يرجع أغلب الفقهاء، نشأة الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى المحكمة العليا سنة 1803 في قضية “ماربوري” ضد “ماديسون”، حيث سيقوم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك John adams والذي حاول قبل نهاية ولايته استغلال الوقت المتبقي لدى الرئاسة ليعين في مناصب القضاة أشخاصا معروفين لمناصرتهم لفكرة الفيدرالية، لكن قرار تعيينه للقاضي William MARBURY لم يتم بسبب عدم توفر الوقت الكافي، وهنا تدخل وزير الداخلية Madison في حكومة الرئيس الجديد Jeffersson لمنع إتمام قرار التعيين، وأمام هذا الوضع توجه William MARBURY إلى المحكمة الاتحادية العليا مطالبا إياها بإصدار أمر قضائي موجه إلىMadison يقضي بتسليمه أمر التعيين بناء على سلطة المحكمة في إدارة الأوامر القضائية .

وأمام هذا الوضع سيجد القاضي John MARSHAL نفسه في محك صعب، لكن عبقرية وحنكة القاضي جنبته ذلك الاصطدام، حينما قضى بأحقية المدعي ” MARBURY ” في التعيين وفي نفس الوقت رفض إصدار الأمر إلى وزير الداخلية Madison بتسليم التعيين وبذلك فإن سياق الحكم يشمل جزأين الأول يؤكد أحقية المحاكم الأمريكية في حماية الحقوق الفردية ضد أعمال الحكومة، والثاني يؤكد عدم الاختصاص في إصدار أمر قضائي ضد أعمال الحكومة مبررا موقفه الأخير بعدم دستورية قانون 1801 الذي يتعلق بقانون التنظيم القضائي الذي أصدره الاتحاديين عام 1801 .

وقد استند القاضي Marshal على مجموعة من الحجج التي على أساسها شيد حكمه، فحسب ما جاء في حيثيات الحكم “إن وظيفة القاضي هي تطبيق القانون، وعند تعارض القوانين يتعين على القاضي تحديد القانون الواجب تطبيقه، وإذا تعارض القانون العادي مع أحكام الدستور وجب عليه تفضيل النصوص الدستورية على أساس أن الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات الثلاث في الدولة”.

إن الدستور يفرض على القاضي عند تقلده لمنصبه أن يؤدي اليمين على احترام الدستور، وتطبيق نصوصه وبذلك فإن اي حرمان للقاضي من مراقبة دستورية القوانين يعد هدرا لقيمة هذا القسم.
واعتمادا على الدستور ولا سيما المادة السادسة التي نصت في فقرتها الثالثة على ما يلي: “هذا الدستور، وقوانين الولايات المتحدة الأمريكية التي تصدر تبعا له وجميع المعاهدات المعقودة أو التي تعقد تحت سلطة الولايات المتحدة تكون القانون الأعلى للبلاد، ويكون القضاء في جميع الولايات ملزمين بها، ولا يعتد بأي نص في الدستور أو قوانين أية ولاية يكون مخالفا لذلك” .

القضاء-الدستوري-الأمريكي-1
صورة تعبيرية

الفقرة الثانية: أساليب الرقابة الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية
تعرف الرقابة الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة أساليب:

1. أسلوب الدفع La voie d’exception
هذه الرقابة لا يثيرها القاضي من تلقاء نفسه، كما أنه تنتج عنها إلغاء القانون لعدم دستوريته، بل إن إثارتها تكون من أحد أطراف النزاع ذي مصلحة، والقاضي يكون هنا ملزما بالنظر أولا في مدى دستورية القانون المطعون في دستوريته، ثم ثانيا، الامتناع عن تطبيقه في النازلة إذا أقرت المحكمة بعدم دستوريته، وهذا لا يؤدي إلى إلغاء القانون بل عدم تطبيقه في النازلة المعروضة أمامه سواء أكانت هذه الدعوى مدنية أو تجارية أو إدارية أو جنائية.

2. أسلوب الأمر القضائي
تم تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة من طرف المحكمة العليا سنة 1924 في حكمها المتعلق بقضية “أوسبورن” ضد بنك الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصدر بموجبه أمرا قضائيا أقرت فيه “أن الموظف الذي يحاول تنفيذ قانون مخالف للدستور يفقد كل حصانة قانونية كممثل للولاية”، وبعد هذه القضية أصبح هذا الأسلوب ممارسة شائعة في جميع محاكم الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن أهم القرارات التي أصدرتها المحكمة الاتحادية، يمكن أن نشير إلى الحكم المتعلق بالقضية المرفوعة من طرف شركات إنتاج الصلب ضد السلطة الاتحادية حيث طالبت هذه الشركات من المحكمة الاتحادية إصدار الأمر قضائي إلى وزير التجارة قصد منعه من تنفيذ أمر اصدره الرئيس ترومان يهم الاستيلاء على مصانع الصلب وإدارتها تحت إشراف الوزارة وطعنت في عدم دستورية القرار، وقد تم إصدار أمر قضائي لصالح هذه الشركات، وبموجب ذلك أضحت الرقابة على دستورية القوانين تمارس وفق هذا الأسلوب من طرف المحاكم الأمريكية.

3. أسلوب الأحكام التقريرية La procédure des jugements déclarations
يعد هذا الأسلوب من الأساليب الحديثة للرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية، ويقوم على تقديم شخص معين طلبا إلى المحكمة للنظر في ما إذا كان القانون المراد تطبيقه عليه دستوريا أم لا، ويترتب على ذلك توقف الموظف المكلف بتنفيذ القانون المطعون فيه إلى غاية إصدار المحكمة حكمها، فإذا حكمت بعدم دستوريته، يمتنع الموظف عند تنفيذه، وقد ربطت المحكمة العليا تطبيق هذا الأسلوب بتوفر شرطين، الأول وجود الخصومة الحقيقية، والثاني يتمثل في المصلحة الشخصية .

خاتمة:
إن الأنموذج الأمريكي يقوم على تخويل الاختصاص المتعلق بالرقابة على دستورية القوانين لمحاكم القانون العام، حيث تعتبر القواعد الدستورية سامية عن القواعد القانونية، وبالتالي، يتعين تطبيقها مباشرة على اي نزاع مطروح أمام المحكمة والامتناع عن تطبيق ما يخالفها من قواعد الأدنى درجة، وتتم هذه الرقابة من خلال الدفع بعدم الدستورية أثناء نظر نزاع مطروح أمام المحكمة، وهي رقابة شائعة، دون أن تستهدف إبطال القانون الذي يطبق على النزاع، فالمحاكم على اختلاف درجاتها تنظر في دستورية القوانين، على أن تظل المحكمة العليا هي المرجع الأخير في تقرير الدستورية من عدمها.

ومن عيوب هذا الأنموذج، أنه يتعين للوصول إلى المحكمة العليا تخطي السلم القضائي، حتى تقول كلمتها النهائية، كما أن حكم هذه المحكمة له حجية نسبية تقتصر فقط على أطراف النزاع، إلا أن احترام السوابق القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية، يضفي الحجية المطلقة على أحكام المحكمة الاتحادية العليا، ما لم تغير المحكمة العليا من مبادئها واجتهاداتها في مناسبات أخرى.


مراجع مختارة:
– مصطفى قلوش، المبادئ العامة للقانون الدستوري، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1995.
– نعمان أحد الخطيب، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الاردن 2011.
– نور الدين اشحشاح، الرقابة على دستورية في المغرب –دراسة مقارنة- أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 2000-2001.
– عبد العظيم عبد السلام عبد الحميد، الرقابة على دستورية القوانين –دراسة مقارنة-، الولاء للطبع والتوزيع 1991.

– Rousseau DOMINIQUE, La justice Constitutionnelle en Europe, collection clefs politique, Montchrestien, novembre 1992.

– محمد الرضواني، مدخل لللقانون الدستوري، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى 2013.

القضاء الدستوري الأمريكي

عادل راشق

باحث في القانون العام والعلوم السياسية، مختص في القضاء الدستوري، له عدة مشاركات علمية وأبحاث منشورة، حاصل على ماستر في القانون العام تخصص العمل البرلماني والصياغة التشريعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *