الأوبئة والمجاعات في تاريخ المغرب – الجزء 2

أسباب انتشار الأوبئة، وكيف تعامل المغرب معها؟

لقراءة الجزء الأول من هذه الورقة

المحور الثاني: أسباب انتشار الأوبئة وتعامُل المغرب معها

تحتل الظاهرة الوبائية في المغرب أهمية كبرى فهي تشكل معطى بنيوياً في التاريخ المغربي، وليس عاملا عارضاً أو مستجَدّاً، إنما هو أصل ثابت متكرر، حيث أن الوباء والمجاعات كانت تصيب المغرب كل مرة، والذي يرجع للأرقام التي تحصي هذه الظاهرة سيجد مثلا أنه ما بين القرن 12 والقرن 19 الميلادي قد أصاب المغرب 140 جائحة، أي ما معدله 17,5 في كل قرن، أو بتعبير آخر مرة في كل خمس سنوات؛ وهو ما يمكن وصفه بالمعدل المرتفع جداً الذي كان له تداعيات وخيمة على جميع الأصعدة والمستويات. غير أن انتشار هذه الأوبئة كان محدودا في الزمان والمكان، أي أنها كانت تنحصر عموما في مدن دون أخرى وأقاليم بعينها، أو في فترة زمنية محددة قد تتصل بوقت الصيف أو الشتاء، ما يدفعنا للتساؤل عن أسباب انتشار الأوبئة في المغرب.

ترتبط مسألة انتشار الأوبئة في المغرب بالعامل الخارجي الذي كان يَلج للمغرب من مَكانَيْن رئيسيين؛

يتمثل الأول في الجهة الشمالية عبر البحر (طنجة – تطوان – الناظور- مليلية)، والثاني يتجلى في المنطقة الشرقية عبر الحدود مع الدول التي تعاقبت على حكم الجزائر، وهذا كان الطابع الغالب على انتشار معظم الأوبئة التي اجتاحت المغرب، خاصة إذا استحضرنا معطى مهم يتحدد في كون الحدود المغربية الجزائرية لم يتم إقفالها على مر 8 قرون سوى أربع مرات فقط ( سنة 1582 في عهد أحمد منصور الذهبي، وسنة 1679 في عهد مولاي إسماعيل، وسنة 1804 و1810 في عهد المولى سليمان)، ما عدا استثناءات قليلة تكاد تكون جد محدودة، انتشر فيها الوباء بفعل العامل الداخلي، فمثلا سنة 1798 ظهر الطاعون في المغرب وبدأ على إثره الموت ينتشر في القبائل، فعوض أن يتم سن وإقرار إجراءات تسهم في الحد من هذا الوباء، ارتأى السلطان مولاي سليمان أن يسيّر تجريدة عسكرية ليبسط سلطته على القبائل التي لا تنصاع له أو تظهر نوع تمرد مستغلا انتشار الطاعون وضعفها، فسار بجيشه في إطار ما يسمى “بالحرْكة” من مكناس إلى مراكش، مرورا بالرباط، الشاوية، عبدة، الشياظمة، الرحامنة، قبائل حاحا وغيرها، الشيء الذي تسبب في نقل العدوى بشكل مكثف ومقتل أزيد من في المائة من السكان. وعلى الرغم من أن هذه الحالات التي انتشرت فيها الأوبئة بالمغرب بفعل العامل الداخلي قليلة إلا أنها كانت تخلّف نتائج وتداعيات جد خطيرة، وهذا عائد من جهة إلى خطورة الوباء في حد ذاته، ومن جهة ثانية يعود لأسلوب تعامل المغرب مع الجائحة أو الوباء. ذلك أن المغرب -على طول المسار التاريخي الذي راكمه- كانت مسألة تعامله مع انتشار الأوبئة سلبية جدا، ذلك أن المؤرخين والباحثين يتحدثون عن كون السلطة المركزية أو ما يسمى بـ”المخزن” لم يكن يتدخل حال انتشار الوباء ولا يسن أي إجراءات لمواجهة الجائحة أو المساهمة في الحد منها، فعلى مر التاريخ المغربي الذي عرف 140 وباء وجائحة، لم يتدخل “المخزن” سوى 11 مرة موزعة على 8 قرون، وكان تدخله جد بسيط يتمثل في توزيع القمح والخبز، الشيء الذي جعل البعض يقول بأن المخزن لم تكن لديه لا الإرادة السياسية ولا الوسائل للتدخل إزاء انتشار الوباء، ومردّ ذلك إلى كون المنظومة المخزنية تقليدية وهشة، وحتى ما كانت تجنيه بفعل الضرائب أو ما يسمى بالمُكوس والجبايات كان في معظمه يكفي فقط السلطان وحاشيته، وإذا ما حقق المخزن مداخيل أكثر من المعتاد يتم آنذاك صرفها على الجيش الذي يستفيد منه المخزن في الحفاظ على سلطته أو لكسب ولاء بعض القبائل.

إن المتصفح للمصادر التاريخية يلاحظ أن الإدارة المخزنية لم تتخذ أي سياسات عمومية لمواجهة الوباء وهذه سمة طبعت سائر “الدول” المتعاقبة على حكم المغرب، ما عدى استثناء وحيد عرفته فترة الموحدين الذين واجهوا انتشار الوباء بسن تدابير استشفائية واحترازية تمثلت في بناء المستشفيات وتوزيع الأدوية وتسجيل أسماء المصابين ومن خالطهم ومن يتوفى منهم يتم دفنه بمعزل، عدا ذلك كان الناس يتركون لمواجهة مصيرهم من غير أدنى تدخل من شأنه التخفيف من وطأة الجائحة أو تفادي الوباء وهذا ما كان ينتج عنه تداعيات وخيمة خاصة في الأرواح البشرية.

وإذا كان هذا حال السلطة المركزية -المخزن- باعتبارها الفاعل الأساسي الذي يقع على عاتقه تحمل المسؤولية وضرورة الفعل والمواجهة، ومادام أن الإدارة المخزنية كانت غائبة عن تدبير الوضع والتعامل معه، قد يتساءل البعض عن وجود مبادرات تضامنية أو مساهمات من قبل باقي الفاعلين في المجتمع، والحقيقة أن الأمر يختلف نوعا ما بالنسبة لباقي الفاعلين في التاريخي الوبائي بالمغرب خاصة أولائك الذين كان لهم احتكاك مباشر مع الناس، يتعلق الأمر هنا بالفاعل الديني المتمثل في الزوايا كمؤسسة دينية منتشرة في المجتمع المغربي، والفقهاء والعلماء باعتبارهم القائمين بدور المثقف والنخبة الفكرية آنذاك من جهة، وبعض الأعيان والتجار الذين كانت مساهماتهم محدودة نوعا ما من جهة ثانية.

والذي يجب أن نقف عنده في معرض الجواب عن هذا السؤال، هو ما يسمى بالتضامن الأفقي الذي تجسد واقعا على مر التاريخ الوبائي بالمغرب، ذلك أن المغاربة كانوا يعون جيدا أن المخزن تمنعه عدة أسباب من الفعل ومواجهة الوباء، والتي تتمثل أساسا في غياب الوسائل وندرتها، ثم في ضعف وهشاشة المخزن، إضافة إلى انعدام الإرادة السياسية في كثير من الأحوال، ولهذا كانت تبرز تيمة التضامن الأفقي، أي أن الناس كانت تحاول إيجاد صيغ معينة لمساعدة بعضهم البعض، وهذا ما جسدته الطرق الصوفية والزوايا التي كانت تحاول جهدها في مساعدة المعوزين في أوقات الأوبئة والأزمات، وهذا ما كان يضفي على الزوايا الصوفية الشرعية Légitimité، وكان أتباعها يتزايدون بكثرة، وليس العلم الشرعي الديني، إذ أن هذا الأخير تشترك فيه الزوايا مع عدد من الفقهاء غير المنتمين للتصوف ولم يكن لهم من الأتباع مثل ما كان للزوايا الصوفية. هذا الأمر الذي كانت تعبر عنه الزوايا الصوفية ب”البركة” للدلالة على كثرت الخير الذي يتم توزيعه على الناس تحت مسمى إطعام “الطّْعام”. ولهذا نجد في تاريخ الصوفية في المغرب عددا من أعلامهم ترتبط أسماؤهم أو ألقابهم بالطعام (بوخبزة، مول الكانون، بوحريرة…)، بل إن أحد أكبر الطرق الصوفية انتشارا في المغرب اليوم تسمى “البودشيشية” وذلك راجع إلى أن أحد أعلامها وكبار مؤسسيها كان يوزع “الدشيشة” على الناس وهو نوع من الطعام معروف عند المغاربة.
كذلك بالنسبة لفئة التجار فقد كانت هي الأخرى تجسد مفهوم التضامن الأفقي في أوقات الوباء وانتشار الجائحة، وذلك من خلال إخراج مخزونها من السلع والبضائع بأثمنة بخسة، خاصة تلك السلع المتعلقة بالمواد الأساسية للمعيش اليومي، الأمر الذي حافظ في كثير من الأحيان على ما يطلق عليه علماء الإجتماع بالتماسك الاجتماعي.
كما لا يفوتنا أن نذكر في هذا الصدد الدور البارز الذي لعبته مسألة الفتوى، حيث عمل عدد من الفقهاء في وقت الوباء على إصدار فتاوى ترخص للناس في بعض المحرمات، تشجع على البدل والعطاء وترسخ لثقافة التضامن الأفقي التي تزداد الحاجة إليها في زمن الجائحة، وهذا الأمر سيستمر إلى حدود القرن العشرين ليبرز من جديد مع الحركة الوطنية وقادة المقاومة مثل أحمد الهيبة ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وغيرهم.

أما في ما يخص المعطى الفكري ودور النخبة في التعامل مع الأوبئة فإن التاريخ الوبائي المغربي عرف فريقين من الفقهاء والعلماء باعتبارهم نخبة المجتمع آنذاك، الأول يمكن وصفه بالعقلاني من مثل بن الخطيب الذي كان فقيها وطبيبا ومؤرخا، وبن خلدون المؤرخ والقاضي والفقيه، ومحمد الفلالي ومحمد السوسي وغيرهم من الفقهاء الذين كانت لهم رؤية عقلانية في التعامل مع الأحداث بصفة عامة ومع الأوبئة بصفة خاصة، حيث تجلى مجهودهم في التوفيق بين النصوص الدينية والواقع المعاش وما تفرضه الضرورة الطبية، وينطلقون في ذلك من التسليم بأن الوباء قضاء وقدر فعلا، لكنه أيضا مرض شأنه شأن سائر الأمراض الأخرى التي تستوجب الاستشفاء والتداوي، وعليه فالواجب على الناس في تعاملهم إزاء الأوبئة هو السعي في إيجاد أدوية وعقاقير لمعالجتها، وإن تعذر ذلك فيجب تفاديها من خلال التدابير الاحترازية المتجلية في الفرار للجبال، البادية ، الغسل، التنظيف، استعمال الخل وبعض المواد الطبيعية (باعتبارها معقما)، وغيرها من التدابير الاحترازية الممكن تصورها حسب وعي العصر.

أما الفريق الثاني والذي يشكل أكثرية في المعترك الديني، فقد كانت له نزعة استسلامية وجبرية وغيبية حيث كانت رؤيتهم لمسألة الوباء تنطلق من كونها قضاء وقدر من الله، إما لمعاقبة العصاة والمذنبين وإما لاختبار وابتلاء العباد، وأن الواجب على المؤمنين هو الخضوع للإرادة الإلهية، وعليه كان معظم هؤلاء الفقهاء يصدرون فتاوى تحرم اتخاذ الإجراءات والتدابير الاحترازية لأنها ستكون وفق هذا المنطق منافية للأصل المتمثل في الإيمان بالقضاء والقدر. فكانت تمنع على هذا الأساس عددا من الإجراءات على مر التاريخ الوبائي المغربي من قبيل الاستشفاء والتداوي بما كان يطلق عليه مسمى الترياق ضد وباء الطاعون، والفرار إلى البادية، والتعقيم بالخل وغيره من المواد، بل إن الأمر سيستمر إلى حدود القرن 19 الذي سيشهد كتابة ونشر عدد من الرسائل والمؤلفات المختصرة التي تحرم اللجوء إلى إقرار الحجر الصحي، كونه من بدع الكفار التي لا يجب تقليدهم فيها، وستخلد هذه الأدبيات لرفض كبير لهذا التدبير الذي كانوا يطلقون عليه “الكارانتينة”، وقد كان على رأس هؤلاء الفقهاء الرافضين لإقرار إجراءات احترازية عدد من أعلام الصوفية ومشاهير الفقه التقليدي بالمغرب، من أمثال بن عجيبة، محمد بناني، أحمد اللمطي، محمد الحضيكي، العربي المشرفي وغيرهم، ممن كان لا يؤمن أصلا بالعدوى وتحوم كتاباته حول القضاء والقدر ويغفلون نصوصا دينية أخرى تحثّ على اتخاذ الأسباب والسعي لإيجاد الحلول، وطبعا هذا الموقف الذي تبناه هؤلاء الفقهاء كانت له بدوره نتائج سلبية للغاية.

والملاحظ في هذا السياق وعلى طول هذا التاريخ ظهر أن المغرب في تعامله ومواجهته للأوبئة كان يدبرها بشكل ضعيف، وفي غالب الأحوال كانت الساكنة تُترك لحالها دون تدخل للسلطة المركزية، أي أن الناس في إطار القبيلة تحاول ابتكار وابتداع وسائل معينة للتعامل مع خطر الأوبئة، فتتدخل “الجّْماعة” لتقسيم العمل وتوزيع الموارد، لاسيما تلك التي تعرف نقصا كالماء والغذاء بما يقتضيه العرف، أو عبر تدخل أرباب الزوايا المنتشرة في مختلف المناطق والتي تقوم مقام السلطة في المجال المحلي، فيقومون بتدبير الأوضاع في زمن الجائحة أو الوباء ويوزعون البذور والقمح ويطعمون “الطّْعام” ويصلحون بين بعض القبائل المتنازعة على الموارد، غير أن هذه التدابير على أهميتها تظل ناقصة ولا تعوض الحضور الفعلي للسلطة المركزية التي كانت تكِل الناس لأنفسهم بالمطلق. ولذلك كانت الساكنة تبدع من تلقاء نفسها وسائل احترازية واستشفائية مثل الفرار للجبال أو السفر للأندلس أو في بعض الأحيان يبيعون أطفالهم للبرتغاليين في مرسى مدينة الجديدة ليحصلوا على الطعام في القرن 16، وفي بعض الأحيان يلجأ المغاربة لبناء المخازن وما يصطلح عليه “بالمطمورات”، ويأكلون بعض الأعشاب ك(إيرني والنبق والبلوط)، أو الجراد وبعض اللحوم المحرمة، نظرا لما تؤول إليه الأوضاع بفعل الوباء أو المجاعة أو غيرها من الأزمات.

وتجدر الإشارة، إلى أن الحجر الصحي، باعتباره أحد أهم الإجراءات التي يتم من خلالها التعامل مع الأوبئة، لم يكن معروفا عند المغاربة على طول التاريخ الوبائي المغربي، إذ أن ظهور هذا التدبير كان في أوروبا في مطلع القرن 12 بعد انتشار الطاعون الأسود أو الطاعون الجارف على اختلاف التسميات، والذي تسبب في مقتل أزيد من 50 في المائة من سكان الحوض الأبيض المتوسط، وقد استمر من 1348 إلى 1350، فحمل الأوروبيين وعلى رأسهم الإيطاليين لأن يبدعوا ما يسمى بالحجر الصحي، الذي تمثل آنذاك في إجراء يتلخص في أن كل من أتى من خارج البلد ويشك في كونه مصابا بالطاعون يتم إيقافه وتحويله لمكان خاص ومنعزل، وقد تمت ممارسة هذا التدبير أول مرة في مدينة “غاكيز Raguze” وهي مدينة إيطالية سنة 1377، لتعمل به أيضا مدينة البُندقية Venisia، غير أنها ربطت هذا الإجراء بفترة محددة وهي أربعين يوما، فإن ظهر من الشخص أعراض المرض يظل في المكان المنعزل المخصص للحجر الصحي إلى أن يعالج وإما أن يموت، ومن ظهر أنه غير مصاب يسمح له بالدخول للمدينة، ثم تطورت وعمّمت هذه الممارسة في الدول الأوروبية خاصة بين القرن 14 والقرن 18، لتدخل هذه الممارسة لمجموعة من المناطق الإسلامية والعربية، كمصر والإمبراطورية العثمانية وغيرها. لكن هذه الممارسة ستظل غائبة عن المغرب والمغاربة إلى أواخر القرن 18، إذ أول مصدر يشير لهذا التدبير هو مؤلف تؤرخ لرحلة قام بها سفير مغربي لإسبانيا اسمه محمد بن عثمان المكناسي في أواخر القرن 18، هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “الإكسير في افتكاك الأسير” الذي يتحدث فيه عن الحجر الصحي بعبارة “الكارانتينة” ويصفه بالطريقة العجيبة للمحافظة على الصحة العامة، ويقول أنها طريقة غير معروفة ولا متداولة عندنا، ويأمل أن يتم اعتمادها يوما ما للنجاة من الأوبئة. وهو الأمر الذي ستبدأ إرهاصاته وبوادره تلوح في الأفق، حيث سيعرف القرن الثامن عشر وبالضبط سنة 1792 محاولة من قبل القناصلة المتواجدين بالمغرب مستغلين انتشارهم وضعف المخزن، فقرروا آنذاك إنشاء ما يسمى بالمجلس الصحي بطنجة، وناضلوا من أجل إقرار الحجر الصحي بالمغرب على إثر انتشار بعض الأوبئة في تلك الفترة، وهو ما تم فعلا إذ طبق الحجر الصحي على ساكنة المدينة سنة 1793. لكن لم يدم طويلا، ولم يكن يلجأ فيها لهذا التدبير في المرات الأخرى التي انتشر فيها الوباء في المغرب، وذلك راجع لأسباب سياسية ودينية واقتصادية. فقد سجلت العديد من الأحداث التاريخية في هذا الصدد لعدم الأخذ بإجراء الحجر الصحي من قبل سلاطين المغرب لأسباب متعددة ، منها السياسي ومنها ذو الطابع الاقتصادي بل ومنها ما هو شخصي، وهذا ما يمكن استخلاصه من موقف السلطان سنة 1813 من طلب إقرار الحجر الصحي، حيث تتحدث المصادر التاريخية على أنه بلغ إلى علم القناصلة الأوروبيين أن السفن العائدة بالحجاج المغاربة والتي أرست بميناء طنجة، يوجد على متنها بعض المصابين بالطاعون ويخشى أن العدوى قد انتشرت بين جميع الركاب، وأنه إذا ما سمح لهم بالولوج للمدينة سيكون لذلك أثر سلبي سينعكس على البلد ككل، فتم التواصل بهذا الشأن مع السلطان سليمان وأخبروه أن هذه السفينة تحمل ركابا مصابين بالطاعون ويطلبون منه إصدار ظهير يتم بمقتضاه سن الحجر الصحي، لكن السلطان رفض وذلك لأسباب منها أن تلك السفينة كانت تحمل ركابا من بينهم أبناء السلطان، مولاي عمر ومولاي علي، ورفض السلطان أن يظل “الشرفة الأمراء” محجورين مع البقية، وهو ما وصفه بعض الباحثين بأنه تجسيد للمحسوبية التي كانت طاغية تلك الفترة بشكل كبير، وكانت تحول دون إقرار تدابير عقلانية تجنب البلد الوقوع في خطر انتشار الوباء. والسبب الثاني يتمثل في أن التجار الذي كان معظمهم آنذاك من أهل فاس وتمتد تجارتهم للشرق وأوروبا قالوا للسلطان أنه إذا ما تم هذا الأمر سيكون له أثر وتقييد على حرية التجارة وسيصير قاعدة، وأشاروا عليه أن يدع السفينة ترسو في ميناء طنجة، والحقيقة أن جزء كبيرا من تجارتهم كانت تمر عن طريق التهريب وكانوا يخشون التضييق على مثل هذه الممارسة اللاّمشروعة. أما السبب الثالث فيتجلى في أن أغلب الفقهاء كانوا ضد إجراء الحجر الصحي، ذلك أنهم يعتقدون أن هذا التدبير من بدع الكفار التي لا يجوز تقليدهم فيها وبالتالي لا يجوز تطبيق مثل هذا الإجراء، وفعلا تم السماح لتك السفن بأن ترسوا في الميناء وسمح للركاب أن يلجوا للمدينة، ما تسبب في كارثة على جميع المستويات، إذ ذهب ضحية هذا الأمر 10% في المائة من سكان المغرب آنذاك و25% في المائة من سكان طنجة على وجه الخصوص. وفي سنة 1878 أصاب الطاعون مدينة طنجة فحاول مجموعة من الأشخاص على رأسهم محمد بركاش والذي كان آنذاك وزيرا للخارجية أن يطوق المدينة من الناحية الصحية، حيث سمي هذا التدبير “بالطوق الصحي” وكان الهدف منه حماية المدينة والبلد من انتشار سريع للوباء، فبعث السيد بركاش برسالة إلى السلطان الحسن الأول يستأذنه فيها أن يسمح له بإقامة طوق صحي، لكنه تفاجأ برد السلطان المعبر عن الرفض القاطع لهذا التدبير ويحمل عبارات التوبيخ للوزير لكونه اتبع نهج الكفار حسب تصوره، وعلّل موقفه بكون الأمر قضاء وقدر وما علينا إلا أن نلجأ إلى الله وهو سيحفظنا، دون أن يتخذ أي سبب أو يفكر في سن إجراءات احترازية، ضاربا بعرض الحائط مجموعة من النصوص الدينية والآثار النبوية التي تحثّ على اتخاذ الأسباب، ولا غرابة في ذلك فالعديد من الفقهاء أنفسهم كانوا يغفلون عنها، والنتيجة للمرة الثانية كانت كارثية، حيث بلغت نسبة الوفيات ما بين 7% إلى 15% من الساكنة.

إنّ دخول الأوبئة إلى المغرب كان يفرض على الإدارة المخزنية مواجهة أمرين أساسيين، يتمثل الأول في الجانب الصحي، وقد لاحظنا أن هذا الأمر لم يكن يواجه بالشكل المناسب وكان معظم الناس يتركون بالمطلق ليبدعوا بأنفسهم أشكالا من التدابير الاحترازية أو الوقائية، والمسألة الثانية هي مواجهة آثار الوباء وما يخلفه من تداعيات على كافة المستويات ما خلف تدهورا مع تراكم الأزمات (أوبئة ومجاعات) وهو ما يفسر حالة الضعف التي وسمة القرنين الأخيرين من تاريخ المغرب ما قبل الاستعمار.

ياسين شادي

المراجع:

  • محمد أمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، سنة 1992.
  • عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة بن خلدون، دار الفكر للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، سنة 2010.
  • سعيد الحاجي وآخرون، أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، مطبعة قرطبة، الطبعة الأولى، أكادير، 2020.
  • حفيظ هروس، الزمان الوبائي: دراسات في الدين والفلسفة والفكر، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، مطبعة قرطبة، المطبعة الأولى، أكادير، 2020.
  • عبير بلالطة، الطاعون الجارف وتأثيره الديموغرافي على إنسان بلاد المغرب الإسلامي إلى تمام القرن 15م، رسالة علمية لنيل شهادة الماستر، شعبة التاريخ، جامعة بوضياف، الجزائر، السنة الجامعية 2019-2020.
  • محمد نبيل ملين، إدارة الأوبئة في المغرب عبر التاريخ، محاضرة مسجلة عبر تقنية التناظر المرئي، تم إلقاؤها بتاريخ 9 أبريل 2020.
  • الموساوي العجلاوي، الأوبئة والدولة والمجتمع في تاريخ المغرب، مقالة منشورة بتاريخ 16 أبريل 2020، عبر منصة https://www.policycenter.ma.
  • محمد ياسر الهلالي، أثر الأوبئة على الأنشطة الاقتصادية في المغرب أواخر العصر الوسيطة، مقالة منشورة بتاريخ 13 أبريل 2020، عبر منصة https://www.policycenter.ma.

الأوبئة والمجاعات في تاريخ المغرب – الجزء 2

شادي ياسين

باحث في القانون العام والعلوم السياسية، حاصل على شهادة الإجازة في القانون العام، ماستر في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ماستر العمل البرلماني والصياغة التشريعية، حاصل على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، مدون، فاعل جمعوي...

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *