عشر سنوات بعد “الربيع العربي”

ضعف البنية المؤسساتية واستعصاء الانتقال الديمقراطي

مباشرة بعد اندلاع ثورات ما سمي “الربيع العربي” بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، دخلت دول المنطقة العربية منعرجا حساسا وحاسما في تاريخها الحديث ساهم في هدم جدار الخوف الذي عمّر طويلا في وجدان المواطن العربي منذ مرحلة ما بعد الاستقلال.

في الواقع، تعتبر أحداث “الربيع العربي” مفصلية لتداعياتها السياسية والجيوسياسية. لقد أعادت أحداث سنة 2011 ترسيم الحدود الفاصلة بين الدولة والمواطن والنظام. وأبانت إلى أي درجة الْتهم النظام مؤسسات الدولة وجعلها جزءا منه بدل العكس، أي أن الدولة أضحت تابعة للنظام بدل أن تكون “مؤطرة” له. بالإضافة إلى ذلك، لم تنحصر اهتزازات وارتدادات الارتجاجات البنيوية الشعبية في شقها الداخلي الوطني، بل تعدت الإطار الزمكاني لتغير معطيات المنطقة كليا. فما حدث في تونس، وصل لمصر وانتقل لسوريا واليمن، وحرّك ملكيات الخليج والمغرب والأردن. ومن جهة أخرى، أعاد تركيب النظام الإقليمي العربي مغيّرا بذلك بنيته وهيكلته. فإذا كان النظام المصري ركيزة من ركائز المنظومة العربية في مرحلة ما قبل 2011، فسقوط نظام مبارك اعتبر بمثابة نقطة تحول لم يتنبأ إلا قلة من الأكاديمين بحدوثها.

من إحدى مظاهرات الربيع العربي

ولهذا، كانت تلك الأحداث التي تأرجحت بين خسارات لأطراف، وفرص لأطراف أخرى، بمثابة نقلة نوعية على مستوى البنية السياسية العربية. ولأن كل عملية هدم تستلزم عملية بناء على أمل تعويض ما سقط، فربما العُشرية التي تلت هذه المرحلة أبانت على أن عمليات الهدم، على كثرتها، تلتها، في غالبية الأحيان، عشوائية في ردود الأفعال ما جعل الفراغ نتاجا مهيمنا في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”. فباستثناء المثال التونسي الذي كان يمثل حالة خاصة حتى قرر الرئيس قيس سعيد تعطيل عمل المؤسسات السياسية التمثيلية لدواع أمنية حسب تفسيره، تُعتبر غالبية التجارب، إن لم نقل كلها، محدودة النتائج تارة، ومنعدمة الآثار الإيجابية تارة أخرى، وذلك مقارنة بالمطالب الشعبية السياسية والاقتصادية في سياق “الربيع العربي”.

وعلى مشارف إتمام عقد من الزمن، عاشت المنطقة ثاني أزماتها متعددة التداعيات مع الفيروس التاجي. فإذا كان ما سمي “الربيع العربي” قد نقل المنطقة من مرحلة النظام الكلاسيكي الإقليمي الثابت، إلى منظومة ديناميكية جيوسياسية متغيرة مجهولة المستقبل، ففيروس كورونا كان بمثابة رصاصة رحمة أصابت العديد من الدول العربية واقتصاداتها، وفرصة ملغومة لمجموعة من الأنظمة لتحكم قبضتها على المنظومة السياسية بعدما أضحى التقارب الاجتماعي والتلاحم الجسدي، أحد أساسيات التمظهر، سببا من أسباب انتقال الفيروس وتكاثره. بالتالي، ظلت المنطقة ككل بداخل منظومة انتقالية غير منتهية. ربيع عربي كمرحلة انتقالية أولى وفيروس تاجي كمرحلة انتقالية ثانية. وبحكم أن الانتقال، السياسي والاقتصادي بالخصوص، يحتاج لبنية مؤسساتية مهيكلة بهدف ضمان سيرورة تحولية سلسلة، فغالبية البلدان العربية (تفاديا لاستعمال لفظ الدول) وخاصة سوريا، اليمن، وليبيا، افتقدت لهذا المكوّن الأساسي ما ساقها إلى دخول ظرفية أمنية وسياسية واقتصادية معقدة لدرجة تُعتبر عملية الخروج منها بالمهمة الحساسة والصعبة، أو بالأحرى، شبه مستحيلة.

في الحقيقة، احتلت إشكالية البنية المؤسساتية العربية مساحة كبيرة في الدائرة الأكاديمية والسياسية بالمنطقة سواء في مرحلة ما بعد الربيع العربي، أو في خضم مرحلة انتشار الفيروس التاجي. لقد أثبتتا معا حاجة الدولة في العالم العربي إلى تركيبة قائمة من المؤسسات الاقتصادية والسياسية بهدف ضمان خروج “محدود الأضرار” للدولة من الأزمة الصحية متعددة التداعيات أولا، وتنزيل وتجسيد لمقتضيات مطالب الشارع العربي في أعقاب “الربيع العربي” ثانيا. فالضعف البنيوي للبنية المؤسساتية العربية إما يكون مزدوجا، أي يشمل كل من المؤسسات السياسية والاقتصادية معا، أو أحاديا، يرتبط بشكل كبير بواحدة في مقابل الأخرى. ولمعالجته، قام صانع القرار العربي بتبني طرح كلاسيكي يعتمد في طياته على مقاربة جزئية غير شاملة. بمعنى آخر، إما يتم التركيز على السياسي في نسيان للاقتصادي، أو يتم تغييب السياسي في رغبة لتقوية الاقتصادي. ولأن كلا من “الربيع العربي” و”فيروس كورونا” قد لعبا دور “جهاز قياس” لصلابة ولمتانة المؤسسات العربية، فإن النتائج المستخلصة أكدت حاجة الدولة إلى مقوّمات هيكلية مؤسساتية تتقمص دور “خط الدفاع” عند الأزمات، ودور “المسرع” عند مرحلة ما بعد الأزمة، ودور “المتنبئ” في فترة ما قبل الأزمة.

داخل هذا كله، احتاج العالم العربي لفكرة بحثية منبثقة عن مراكز الأبحاث لتمكين السياسي من تحديد مكامن الخلل والنقص والعمل على إصلاحها. وفي الإطار ذاته، كان المواطن في الحاجة لفهم بسيط وسهل لماهية المشكل وتداعياته من جهة، وللأدوات والوسائل اللازمة لطرح حلول تحترم خصوصية التطبيق أكثر من أي شيء آخر من جهة ثانية. فالتوصيات المثالية تظل حبيسة أوراق التقارير، وتلتزم رفوف المكاتب وملفات التحميل بدل التنزيل والتجسيد في الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعيش.

احتجاجات في زمن الكورونا

في هذا الصدد، وبعد قراءة النسخة الأولية لتقرير أكاديمية ابن رشد الصادر عن المركز العربي للأبحاث المغربي المُعنون “عشر سنوات بعد الربيع العربي”، تبيّن أن الإشكال لا يرتبط فقط بالحل المقترح بعد عملية تشخيص للورم المؤسساتي، بل في الواقع، يتعلق الأمر بالمقاربة الأحادية المعتمدة في تحليل البنية المؤسساتية العربية بشكل عام. لقد بسّط الأكاديمي، في هذه الحالة، عملية تمحيص الإشكال وتشخيص “العلة” بنهج مسلكين تحليليين مدمجين: سياسي واقتصادي. فأي عملية فصل للمقاربة المؤسساتية المزدوجة قد يؤثر على النتائج والخلاصات المتوصل إليها. وعليه، سيعاد إنتاج (تكرار إن صح القول) للخطأ التشخيصي للواقع السياسي/الاقتصادي بالمنطقة.

يجيب التقرير على سؤال محوري مرتبط بالأساس بجدلية ثنائية “التنمية الاقتصادية – الديمقراطية”. فهو لم يفصل بين الإثنين كأن الواحد يتفاعل ذاتيا في منأى عن الآخر، بل دمج بين الإثنين في سيرورة سببية واحدة تتلخص في أن توفير بنية مؤسساتية اقتصادية وسياسية قوية ومتينة للدولة، سيعمل على تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة للمواطن العربي. وعن طريق هذه الأخيرة، سيتفاعل كل من الطرف المؤسساتي والطرف التنموي الاقتصادي في تسهيل عملية الانتقال الديمقراطي. ويمثل كل من الثلاثة، الركائز الأساسية لصوت الشارع العربي في سنة 2011 أولا، وأحد الخلاصات المحورية المستوحاة من مقياس مؤشر “التجربة الكورونية” ثانيا.

عموما، سيعزز صدور النسخة النهائية من تقرير الأكاديمية العلمية “ابن رشد” من بنية التوصيات المتاحة أمام صانع القرار لتقوية أواصر الدولة بمفهومها البعيد كل البعد عن “النظام السياسي”. ستعرف البنية المفاهيمية العربية تحولا مرتبطا بالسياق أكبر من المضمون. فتعريف “المطالب” في مرحلة ما بعد كورونا، سيختلف حتما عن المفهوم المطروح في حقبة “ما قبل” الفيروس التاجي، وأولويات المواطن العربي في العشرية السابقة “الضائعة” ستشهد حتما تغيرا مقارنة بنظيرتها القادمة. وبين هذا وذاك، تظل المؤسسة، بمنظوريها الاقتصادي والسياسي، الحلقة الناقصة في أي عملية انتقالية.

عشر سنوات بعد “الربيع العربي”

Exit mobile version