العدل والقسط في الإسلام

لا شك أن رسالة الإسلام رسالة عدل وقسط بامتياز، و”العدل ميزة الشريعة وخلاصتها“، ولن نكون مجانبين للصواب، إذا ما قلنا إن الإسلام هو العدل الذي ضبط أمور الدين والدنيا، ورتب كل تفاصيلها في كل مجالاتها، وهذا الأمر مقرر عند ذوي الألباب، ممن يعلمون أن السابق يستفيد من اللاحق ويزيد عليه، هذا في عالم الناس وشؤونهم الحياتية، ويزداد المرء يقينا إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو واضع الشرائع ومرسل الرسل تيقن من ذلك، ولم يساوره شك بعد ذلك، وبما أن رسالة الإسلام كانت خاتمة الشرائع؛ فقد وافقت الرسالات السابقة في الأصول الكبرى، وزادت عليها في الإحاطة بكل تفاصيل الحياة؛ حتى يعيش الناس في عدل وأمان، ويدخلوا في حصن الله الذي يحقق السعادة، والأمن والاستقرار.

وقد وافقت أيضا ما أنتجته وجادت به خيرة العقول البشرية عبر الزمان، تلك العقول التي تأملت في نواميس الكون وفي اجتماع البشرية، لتتوصل إلى أنه لا يتصور أن تقوم حياتهم إلا بقيم العدل والقسط – طبعا لم تصل إلى ما أقره الله سبحانه وتعالى بتشريعه المحكم، الشامل لكل مناحي الحياة – كما أنها سعت للبحث وراء العدل والحرية والعلم وكل القيم التي لا يختلف فيها العقلاء، يقول الإمام الطاهر ابن عاشور مشيرا لهذا المعنى الذي ذكرت، يقول رحمه الله : “ ونَجِدُ القَوانِينَ الَّتِي سَنَّها الحُكَماءُ أمْكَنَ في تَحْقِيقِ مَنافِعِ العَدْلِ مِثْلَ قَوانِينِ أثِينَةَ وإسْبَرْطَةَ، وأعْلى القَوانِينِ هي الشَّرائِعُ الإلَهِيَّةُ لِمُناسَبَتِها لِحالِ مَن شُرِّعَتْ لِأجْلِهِمْ، وأعْظَمُها شَرِيعَةُ الإسْلامِ لِابْتِنائِها عَلى أساسِ المَصالِحِ الخالِصَةِ أوِ الرّاجِحَةِ، وإعْراضِها عَنْ أهْواءِ الأُمَمِ والعَوائِدِ الضّالَّةِ، فَإنَّها لا تَعْبَأُ بِالأنانِيَّةِ والهَوى، ولا بِعَوائِدِ الفَسادِ، ولِأنَّها لا تُبْنى عَلى مَصالِحِ قَبِيلَةٍ خاصَّةٍ، أوْ بَلَدٍ خاصٍّ، بَلْ تُبْتَنى عَلى مَصالِحِ النَّوْعِ البَشَرِيِّ وتَقْوِيمِهِ وهَدْيِهِ إلى سَواءِ السَّبِيلِ، ومِن أجْلِ هَذا لَمْ يَزَلِ الصّالِحُونَ مِنَ القادَةِ يُدَوِّنُونَ بَيانَ الحُقُوقِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ بِقَدْرِ الإمْكانِ وخاصَّةً الشَّرائِعَ الإلَهِيَّةَ”٢ ، والعقل بطبيعته التكوينية يصيبه الخبل والزلل، ويحتاج إلى من يسدده ويصوبه، لذلك كان في حاجة إلى مجيء الرسل، حتى لا يزيغ عن الفطرة، ويميز بين المصالح والمفاسد،
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “ لولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع و الضار في المعاش و المعاد” ٣ .
لقد اعتبرت رسالة الإسلام قيمة العدل أصل القيم السياسية، وجدر كل القيم التي تنبثق عنها، كما اعتبرت قيمة القسط من القيم التي تجسد ذلك على أرض الواقع، على اعتبار أن قيمة العدل تمثل الجانب التجريدي النظري، وقيمة القسط تمثل الجانب العملي التطبيقي، والناظر في جوهر رسالة دين الإسلام، يرى ذلك جليا واضحا، سواء من حيث نصوص الوحي قرآنا وسنة، أو من حيث الجانب العملي؛ جانب السنة الفعلية، أو حياة الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أو بالتعبير النبوي الشريف القرون الخيرية، و لم يقتصر الأمر بالعدل والقسط على الطبقة الحاكمة كما يظن البعض، أو بفئة دون فئة، أو بالمسلمين دون غيرهم، يقول الفخر الرازي مشيرا إلى دخول غير المسلمين في وجوب عدل المسلمين لهم ” اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا شَرَحَ بَعْضَ أحْوالِ الكُفّارِ وشَرَحَ وعِيدَهُ عادَ إلى ذِكْرِ التَّكالِيفِ مَرَّةً أُخْرى، وأيْضًا لَمّا حَكى عَنْ أهْلِ الكِتابِ أنَّهم كَتَمُوا الحَقَّ حَيْثُ قالُوا لِلَّذِينِ كَفَرُوا: هَؤُلاءِ أهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أمَرَ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الآيَةِ بِأداءِ الأماناتِ في جَمِيعِ الأُمُورِ، سَواءٌ كانَتْ تِلْكَ الأُمُورُ مِن بابِ المَذاهِبِ والدِّياناتِ، أوْ مِن بابِ الدُّنْيا والمُعامَلاتِ، وأيْضًا لَمّا ذَكَرَ في الآيَةِ السّابِقَةِ الثَّوابَ العَظِيمَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وكانَ مِن أجَلِّ الأعْمالِ الصّالِحَةِ الأمانَةٌ، لا جَرَمَ أمَرَ بِها في هَذِهِ الآيَةِ” ٤، و من طالع كتب الفقه، وجد أن الفقهاء أفردوا أبوابا لأهل الذمة والأقليات، وهذا أسمى العدل الذي فهمه المسلمون وجعلوه ضمن قانونهم، ينظمهم ويضمن حقوقهم.
وكما قلت، لم يقتصر الأمر على فئة دون فئة، بل أناطه سبحانه بعموم الناس، لأن الآية عامة كما يقول أهل الأصول، قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ} سورة النساء، الآية 58.
يقول القرطبي رحمه الله :
” وَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النَّاسِ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ فِيمَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ وَرَدِّ الظُّلَامَاتِ وَالْعَدْلِ فِي الْحُكُومَاتِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَتَتَنَاوَلُ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَالتَّحَرُّزِ فِي الشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَالرَّجُلِ يَحْكُمُ فِي نَازِلَةٍ مَا وَنَحْوَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ أَمَانَةُ اللَّهِ تَعَالَى ” ٥.
وقد أكد الإمام ابن الفرس رحمه الله ذلك، عند تناوله لهذه الآية أيضا، قال : “ اختلف في المخاطب بالآية، فقال ابن عباس وغيره : هي عامة في كل مؤتمن على شيء،و قال علي بن أبي طالب وغيره: هي خطاب لولاة المسلمين أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه، وهذا اختيار الطبري “٦.
هذا من حيث فهم تلك النصوص المؤطرة ابتداء لكونها عامة أم خاصة، أما ما يخص تنزيل مقتضياتها المنظمة لحياة الناس، فيختلف الأمر حسب درجة المسؤولية المنوطة بكل فرد من الأفراد المكونة للمجتمع، فمسؤولية الحكام والولاة والقضاة غير آحاد الناس العاديين، وهذا ما أعقبه القرطبي بعد أن رجح اختيار الطبري بقوله : ” وتتناول ما دونهم من الناس في حفظ الودائع... ” .
ولنشرع في ذكر بعض الآيات التي أمرت بالعدل والقسط، دون الاستقراء لكل الآيات، لأن الأمر يحتاج إلى دراسة، ونحن هنا إنما أردنا أن نبين شيئا من ذلك، يقول الله تعالى : {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ}سورة النساء،الآية58.
ويقول جل جلاله في آية أخرى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ}سورة الحديد الآية25.
فالآية الأخيرة واضحة في أن القيام بالقسط غاية كل الرسل والرسالات، والآية التي قبلها اعتبرت أن أداء الأمانة والحكم بالعدل أمر لا ينبغي أن يحيد عنه من وكّل بالحكم في قضايا الناس وتدبير شؤونهم، وقد اعتبرهما ابن تيمية رحمه الله ” جماع السياسة العادلة و الولاية الصالحة” ٧.
وقد تجسد ذلك في حياة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، فمما أوصى به أصحابه، ما رواه عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه وسلم “.. وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم” ٨.
وكذلك وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه واليا على اليمن: ” واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب“٩.
و لم يقتصر صلى الله عليه وسلم بتوصية أصحابه، فقد كان صلى الله عليه وسلم شديد التحري في العدل حازما فيه، وكان يقول : ” إني لأرجو أن ألقى الله و ليس لأحد عندي مظلمة” ١٠.
و من فعله صلى الله عليه وسلم، ما روي عن سعيد الخدري رضي الله عنه” قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما، أتاه ذو الخويصرة_ وهو رجل من بني تيم _ فقال يا رسول الله اعدل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبتُ و خسرتُ إن لم أعدلْ” ١١.
و لقد أدرك نجوم الهدى، خريجو المدرسة المحمدية، تلامذة النبي صلى الله عليه و سلم مركزية كل من هاتين القيمتين – العدل والقسط – تصورا وعملا، فكان من آخر ما وصى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة قبيل موته “ إني قد تركت فيكم اثنتين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما : العدل في الحكم، و العدل في القسم” ١٢.
هذه بعض النصوص من ذلك الكم الهائل الكثير…والتي حثت على العدل والقسط، ورفضت الظلم والجور، ولقد أدرك ذلك الفلاسفة قديما عندما حاولوا الإجابة عن سؤال منشأ العدل والظلم، محاولين مقاربته من جانبه السياسي وهو أصل الداء عند بعضهم، فبعلاجه تنمحي الأمراض الأخرى، فهذا سقراط -أبو الفلاسفة- مجيبا تلميذه كلكون عندما سأله” كيف سترتب الخيرات؟ وأين ستضع العدل في سلم قيم الخير؟ أجاب سقراط بأنه يضع العدل في الطبقة الأعلى من بين تلك الخيرات” ١٣.
أما فقهاء الإسلام ممن اهتموا بالسياسة الشرعية على وجه التحديد، فقد جاءت نصوصهم دقيقة في مسألة العدل والقسط، وحاول كل منهم أن ينظر إلى المسألة نظرة مقاصدية تحاول جمع الرأي وتسديد القول ومراعاة المآل .
يقول الماوردي رحمه الله: “الأدب أدبان: أدب شريعة، و أدب سياسة، فأدب الشريعة ما أدى الفرض، و أدب السياسة ما عمر الأرض. و كلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان وعمارة البلدان؛ لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، و من خرَّب الأرض فقد ظلم غيره“١٤.
و قال ابن تيمية رحمه الله : “إن العدل واجب لكل أحد، على كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح قطُّ بحال” ١٥.
و قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكميةمن له ذوق في الشريعة وإطلاع على كمالاتها وأنها جاءت لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها مواضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها و سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة علمها من علمها و جهلها من جهلها “١٦.
و أختم بقول ابن تيمية رحمه الله إذ يقول : “وأمور الناس تستقيم مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة“١٧.
و الحمدلله رب العالمين.
.
————-
١) محمد عقلة،الإسلام : مقاصده وخصائصه.ص113.
٢) ابن تيمية، مجموع الفتاوى. ص100
٣) الرازي، مفاتيح الغيب، سورة النساء، تفسير قوله تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانة إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} الآية 58.
٤) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، سورة النساء، تفسير قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانة إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} الآية 58.
٥) الطاهر ابن عاشور ، التحرير و التنوير. سورة النساء ، تفسير قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانة إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} الآية 58.
٦) ابن الفرس أحكام القرآن.ص ٢١٧.
٧) ابن تيمية، السياسة الشرعية 6.
٨)صحيح البخاري 977.
٩)صحيح البخاري 2128.
١٠)سنن أبي داود، قال محققا الكتاب شعيب الأرنؤوط ومحمد كامل قره بللي: إسناده صحيح.
١١)صحيح مسلم 2744.
١٢)السنن الكبرى للبيهقي، 6194.
١٣)أفلاطون، الجمهورية ، ص 88.
١٤) الماوردي، أدب الدنيا و الدين،ص134.
١٥)ابن تيمية، منهاج السنة،5126.
١٦) ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص25.
١٧) ابن تيمية، مجموع الفتاوى28164.

العدل والقسط في الإسلام

Exit mobile version