العلاقات المُرتدّة

بعد الانفصال، يمّر كلا طرفا العلاقة المنتهية بعدة مراحل نفسية قبل الوصول إلى مرحلة التعافي وهي المرحلة التي يمكن فيها قلب الصفحة نهائيا والخوض في علاقة جديدة وبدأ حياة جديدة بقلب سليم مُعافى وروح متصالحة مُتّزنة..

لكن قبل الوصول الى هاته المرحلة الصحية، يعيش الشخص بعد الانفصال فترة من الألم، ألم الخذلان والخسارة تليها فترة من الغضب وربما الرغبة في إلحاق الأذى بالشريك أو الإنتقام منه لينتهي الأمر بالدخول في فترة من الاكتئاب قد تقصر وقد تطول، وهي فترة رضوخٍ واستسلام وعدم الرغبة في فعل أي شيء سوى الانعزال عن العالم الذي ينتهي بالانتقال الى مرحلة التجديد وهي أولى الخطوات نحو التعافي والاستفاقة والتمكن أخيرا من رؤية ألوان أخرى عدا الأبيض والأسود.. ثم إعادة البناء والوقوف على القدمين من جديد والتفكير في ما حدث بوجهة نظر موضوعية قد تصل إلى التسليم بأن ما حصل هو أفضل ما كان يجب أن يحدث.. وأخيرا الوصول الى مرحلة الثبات التي يصبح فيها الإنهيار جزءاً من الماضي، وتصبح الجراح دروسا والآلام اخطاءا وجب تصحيحها وتفاديها مستقبلا..
ومتى أصبح الشخص واعيا بهذا الأمر يدخل تلقائيا الى فترة من النضوج العاطفي ومنه إمكانية التفكير في العثور على شريك جديد وحب جديد..

لكن ماذا يحدث لو أن الشخص المنفصل حديثا قرر حرق كل هذه المراحل والدخول في علاقة جديدة فور انفصاله، ودون اعطاء نفسه فرصة للرجوع خطوة الى الوراء وإعادة النظر في كل ما حصل معه وهو ما يُعرف في علم النفس بالعلاقة المرتدة أو Rebound Relationship.

وللاسف، يستخدم الكثير عملية الارتداد أو الهروب إلى علاقة ثانية مباشرة بعد الفشل لتجاوز الشعور بالوحدة والألم أو في محاولة فاشلة منهم لكبت الغضب والسيطرة عليه..فيكون الارتماء في أحضان علاقة جديدة بمثابة الوصفة السريعة والحل السحري.

البعض الآخر لا يلجأ الى الإسراع في الدخول في علاقة جديدة مداراةً لالآمه وهروبا من وحدته، بل محاولة منه لتعزيز ثقته بنفسه واثبات قوته ورد اعتباره أمام الآخرين بكونه شخصا لا يزال مرغوبا به..

كما قد يكون التورط في علاقة جديدة فور الانفصال رسالة ضمنية يوجهها لشريكه السابق، لإرسال شحنة مفعمة باللامبالاة.. وتعزيز فكرة التجاوز والقدرة على البدأ من جديد رفقة شخص جديد ومنه اشعال نيران الغيرة في قلبه..

الانتقام من الشريك عن طريق البدأ في علاقة سريعة هو واحد من الاسباب الشائعة للهرولة الى علاقة جديدة ايضا..

المشكلة هنا لا تكمن في معرفة الدوافع بقدر ما تكمن في وعي الطرف الثالث أو الشريك الجديد جيدا لحقيقة ما يدور من حوله من رسائل مشفرة يتبادلها الطرفان على مرآى منه وانه في الكثير من الأحيان لا يكون مضطرا لاستنتاج ذلك، فشريكه سيسرد على مسامعه تفاصيل علاقته السابقة و أسباب الانفصال ايضا، بل وسيرتدي إن لزِم الأمر ثوب الضحية المُغرر به..
وحتى وإن قرر إخفاء ذلك والتظاهر بالصلابة وعدم الاكتراث، فإن ندبات الماضي وآثار الانكسار ستظهر جليا في تصرفاته وردات افعاله..

والمؤسف هنا أن الطرف الدخيل سيقرر في أغلب الاحيان رفع التحدي ولعب دور المرهم أو العكاز الذي يستند عليه الطرف المتضرر من العلاقة السابقة إلى حين تعافيه، دون التفكير في عواقب ما يحاول اقحام نفسه به..

إن علاقة كهذه محكوم عليها بالفشل مسبقا لأن الضحية نفسه لا يفعل شيئا سوى محاولة الاستغلال واستخدام الغير كمداس يعبر عليه في رحلته الى التعافي، وسواء كان الاستغلال متعمدا أم لا، فإن المجازفة في علاقة مع ناجي من علاقة حديثة بكثير من الجراح والندوب سيكون بمثابة رهان غالبا ما سينتهي بالخسارة.. خصوصا وأن هذا النوع من العلاقات قد ياخذ منحى آخر قد يتسم بنوع من القسوة التى تبدأ بالمقارنة بين الشريك القديم والشريك الجديد وقد تمتد الى الإنتقام من الأول في صورة الثاني نتيجة حمل الكثير من المخاوف اتجاه المستقبل فتطغى المزاجية على تصرفات الضحية الذي يتحول لا اراديا الى جلاد خصوصا إن كان مُصراً على التمسك بخبرات وتجارب علاقته السابقة..

كما قد يصل الامر لأن ينتحل الضحية صفة شريكه السابق ذلك أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب.. إذ أن النفس تعتقد الكمال في الذي غلبها، فيصبح الضحية جلادا يمارس على غيره ما كان يُمارس عليه.

إن فترة النقاهة بعد نهاية أي علاقة هي خطوة ضرورية من أجل تفادي استخدام الغير كقوارب نجاة!
لكن السؤال الأهم هنا هو كيف نكتشف أننا متورطين في علاقة من هذا النوع؟

-الكلام عن الشريك السابق بشكل متواصل أو تجنب الحديث عنه بشكل مطلق وتفادي حتى ذكر اسمه أولى المؤشرات على التورط في هكذا نوع من العلاقات.
-التصرف مع الشريك الجديد بطريقة متذبذبة غير مفهومة فيها الكثير من القرب المفاجى والبعد اللامبرر.
-تجنب اعطاء عنوانا واضح لنوع العلاقة الحالية وتفادي تقديم الوعود أو السير نحو علاقة رسمية.
فكرة المقارنة بين الشريك السابق والشريك الحالي والاسترسال في ذمه مما يعني عدم الشفاء منه بعد، كلها مؤشرات يجدر بنا عدم اغفالها والتغاضي عنها و نحن نخوض بداية اي علاقة عاطفية.

لا أحد ينكر أننا نعيش في زمن الاستهلاك السريع من وجبات وسلوكيات، لمشاعر وأحاسيس..الحياة ستستمر بعد الفراق حتما.. لكنه من الضروري عدم اقحام ضحية جديدة في علاقة نتحول فيها من الشعور بالظلم الى ممارسين له.

العلاقات المُرتدّة

سلمى بن دعاس

استاذة لغة فرنسية. مهتمة بالادب.. بالترجمة و الكتابة الفلسفية كتبت رواية تحمل عنوان (عندما نشتهي..نشتري).

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *