لماذا أحدث فيلم Don’t look up كل هذه الضجة السياسية والفلسفية

قراءة في فيلم لا تنظر للأعلى

بعد مشاهدة فيلم Don’t look up قررت مشاركة بعض الأفكار التي تمت الإشارة إليها في هذا الفيلم مع حرق للأفكار (حسب درجة وعي المتفرج) وليس للأحداث، فالفيلم مستند إلى أحداث محتملة الوقوع.

يبدأ الفيلم عندما اكتشفت طالبة دكتوراه عبر التلسكوب مذنبا ضخما بحجم جبل إفرست في الفضاء، لتخبر بعد ذلك مشرفها البارع في الرياضيات والفيزياء الذي قام ببعض الحسابات ليجد أنه متجه مباشرة نحو الأرض، وتأكد من خلال الحسابات أن وقت وصوله سيكون بعد 6 أشهر تقريبا. من هنا تتضح مدى أهمية الطلبة الباحثين للنهوض بالبحث العلمي وتطويره تحت إشراف باحثين يؤمنون بقدراتهم ويمنحونهم الثقة في النفس.

بعد هذا الاكتشاف اتصل الباحث مباشرة بالمسؤولين وأخبرهم بما اكتشفته الطالبة، فتم تحديد موعد لكليهما مع رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية ليوم الغد. بعد رحلة طويلة في الطائرة باتجاه العاصمة، وصل العالم والباحثة إلى البيت الأبيض حيث تلقوا ترحيبا باردا من طرف الموظفين الفاسدين، في ذلك الوقت كانت الرئيسة المرتبطة بجسدها مشغولة في أشيائها التافهة بالنظر إلى ما يحمله العالمان من خبر صادم سيؤدي إلى انقراض البشرية تسقط أمام أهميته كل الأخبار الأخرى، ليتم بعد ذلك تأجيل اللقاء إلى اليوم الموالي! نعم بعد كل هاته الرحلة الشاقة يتم إهمال العالِمين بهذه الطريقة المذلة.

في اليوم الموعود جلس العالم والباحثة وجها إلى وجه مع الرئيسة، بدأ العالم بالتحدث لكنه لا يتقن الخطاب العلمي الموجه للجمهور العام، فبدأ يتكلم بالقوانين الفيزيائية والحسابات الرياضية التي لا يفقه فيها الآخر شيئا ويراها فقط تراهات، هنا أوقفته الرئيسة التي تريد أن يبسط لها ما يريد قوله، فتدخلت الطالبة الباحثة متكلمة بطريقة سهلة وصريحة. كان تلقي الخبر من الرئيسة بطريقة جد باردة وكأن الأمر لا يعنيها بتاتا، فبينما كان احتمال اصطدام المذنب بالأرض 100%، حددت الرئيسة أنه قد يكون فقط 70% لأنه لكل معاييره الخاصة وبالتالي نسبته الخاصة كما نجد نفس الأمر مع الحكومة والمعارضة.

خلفية-فيلم-Dont-look-up
خلفية فيلم Dont look up

بعد عدم الاكثرات من طرف المسؤولين، قرر العالمان اللجوء إلى وسائل الإعلام؛ بدأ العالم في التكلم بطريقة تقنية جدا لكن تدخل الباحثة بلهجة قوية لتخبر الناس أمام الكاميرا بأن الكل سوف يموت كان ناجعا وفي وقته تماما، وهكذا قالت الحقيقة كما هي وفي وجه العالم كله وبدون خوف لأنها مسؤولية. في هذه اللحظة بدأت موجة كبيرة من السخرية منها من طرف المذيعين قبل أن تبدأ موجة أخرى في مواقع التواصل الاجتماعي. بعد اللقاء جاء وقت التقييم حيث أخبرتهم المذيعة أن الخبر لم يلقى أي صدى أو اهتمام في المجتمع الذي كان غارقا في الأخبار التافهة مثل المشاكل الشخصية للفنانين! وهذا كما هو واضح نظرا لضعف تأثير العلماء على المجتمع، كما جاء ذلك في كتاب نظام التفاهة للفيلسوف الكندي “آلان دونو” حيث يعرض فكرة انفراد التافهين بالسلطة وتحكمهم في كل المجالات.

بعد توالي تأكيدات الخبر من دول عديدة عبر العالم، اقتنعت الرئيسة أخيرا بإرسال مهمة فضائية للقيام بمحاولة تحريف المذنب ليخرج عن مداره، كرسالة مشفرة على أن الولايات المتحدة الأمريكية هي البلد الوحيد القادر على إنقاذ البشرية من التهديدات المحتملة لكوكب الأرض وكأنها وحدها من تمتلك التكنولوجيا على هذا الكوكب! بعد الإطلاق بدقائق تتدخل الرأسمالية ممثلة في شركة للتكنولوجيا بإلغاء المهمة، مدير الشركة من أغنى الاشخاص عبر التاريخ في إشارة لمدراء الشركات العملاقة في واقعنا! وهو الذي أقنع السياسيين بأن هذه فرصة لا تعوض، بما أن المذنب يحتوي على معادن نفيسة، نجعله يتفتت فقط قبل الوصول وهكذا نستفيد من تلك الثروة الهائلة! الكارثة قادمة بسرعة رهيبة والرأسمالية لا زالت تراها كفرصة لزيادة الربح أكثر ! هنا لابد لي أن أحيلكم على كتاب عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث للمؤلفة الكندية “نعومي كلاين” التي تعتبر من أبرز الرموز الفكرية لحركة مناهضة العولمة النيوليبرالية؛ يشكل الكتاب شهادة واضحة حول استغلال الرأسمالية للكوارث الطبيعية والأزمات المختلفة للدول لتحكم سيطرتها أكثر فأكثر وتضاعف من أرباحها. تلك الشركة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي تجمع عشرات الملايين من المعلومات حول كل شخص بل حتى أنها قد تتوقع متى وكيف سيموت ذلك الشخص، كما توقعت موت ذلك العالم وحيدا! لكن مهما خططت الرأسمالية، دائما هناك أشياء لا تستطيع التحكم فيها، فهكذا علمنا التاريخ.

بعد ذلك، تم طرد الطالبة لكثرة قولها الحقيقة المرة حيث أضحت متمردة على النظام، وتمت استمالة العالم حتى قام بالتخلي عن زوجته وأبنائه الذين ضحوا معه حتى وصل إلى ما وصل إليه؛ كما سيتم التخلي عنه هو أيضا من طرف النظام بعد محاولة الرجوع إلى الصواب وقول الحقيقة بالطريقة التي يستوعبها الكل. لقد كان كثير الاسئلة والمعارضة وهذا ما لم يعجب الرأسمالية التي لا تحب سماع الأسئلة، ناهيكم عن الإجابة عنها! وهكذا رفضت الشركة بأن يتم تقييم ومراجعة مهمتها الانتحارية علميا واكتفت باعتماد الذكاء الاصطناعي ليكون الآمر والناهي!

جاءت اللحظة الحاسمة واقترب المذنب من الأرض حتى أصبحت مشاهدته بالعين المجردة ممكنة؛ هنا فقط بدأت فئة من المجتمع تنظر إلى المحرقة القادمة بسرعة الضوء وانتشر هاشتاغ “فقط اُنظر للأعلى !Just look up” بسرعة رهيبة وبدأت أعمال الشغب كما يسميها النظام. في هذه اللحظة ظننتٌ شخصيا أن المغفلين سيستوعبون الأمر، لكن للأسف رؤية المذنب لم تزدهم إلا ضلالا، فعندما كان العلماء والمجتمع العلمي يحذر من النهاية القادمة والقريبة جدا كان النظام التافه يقوم بالخطابات السياسية لإيهام الناس أن كل شيء بخير وتحت السيطرة لينتشر بعد ذلك هاشتاغ مضاد “لا تنظر إلى الأعلى !Don’t look up”. وهنا لابد لي من استحضار كتاب سيكولوجية الجماهير للكاتب “كوستاف لوبون” عالم علم النفس الجماعي الذي بين كيف يؤثر الخطاب السياسي الإيديولوجي الفارغ على الجماهير ويسيطر عليها مستغلا نقط ضعفها العاطفية، وهكذا يغزو الزعماء عقول الجماهير بشكل سريع في غياب أي شكل من المقاومة الفكرية كالمناقشة والتفكير النقدي.

ليوناردو-ديكابريو-وجينيفر-لاورنس-من-فيلم-لا-تنظر-للأعلى
ليوناردو ديكابريو وجينيفر لاورنس من فيلم لا تنظر للأعلى

عندما أصبح المذنب على مشارف السماء انطلقت الروبوتات بهدف تفتيت المذنب لكن تم سقوطها تباعا لتفشل المهمة المستحيلة أو طريقنا الآمن للهاوية، وهذا ما يحدث دائما عندما تكون هناك مشكلة في مجتمعاتنا عوض أن تقوم الدولة بوضع حل جذري له تكتفي بالإصلاح ببعض الحلول السطحية الترقيعية مع تزيينه ببعض الماكياج لكي يعجب العامة، كمن يريد معالجة السرطان بالدوليبران! وبعد رؤية الأمر الواقع تسللت الرئيسة ومدير الشركة من مركز القيادة للهروب لتدرك بعد ذلك الرئيسة في الطائرة أنها نسيت ابنها الذي بقي ينتظرها في المركز كالساذج!

بعد أن حان وقت الحقيقة والاصدام بالحائط القادم، أحس الكل بخيبة الأمل حيت وجد كل شخص ضالته للشعور بالأمن، هنا التحق العالِم بعائلته القديمة وأصدقائه لتناول العشاء الأخير، المقربون كانوا دائما مصدرا للحب والمودة في اللحظات الحرجة، في هاته الفترة أيضا ازداد الناس إيمانا بالله وقاموا بصلواتهم الأخيرة لعلهم ينقذون أنفسهم لاحقا وهكذا انتصر الفيلم للدين نظرا لأهميته في حياتنا. ثم مات عالمنا في دفئ أسرته وأصدقائه عكس ما توقعه الذكاء الإصطناعي الذي نثق فيه غالبا!

بعد انفجار الكوكب كان الهاتف الذكي يسبح في الفضاء يقوم بتذكير صاحبته الطالبة بانتهاء مدة الحمية الغذائية التي برمجتها لتنتهي بحلول موعد الانفجار! من هنا يتبين لنا أهمية البحث العلمي ودوره في التنبؤ الذي يعتبر هدفا من أهداف البحث العلمي.

وبعد عشرات الآلاف من السنين، ويا للعجب، تمكن المدير والرئيسة وبعض أتباعهم من الإفلات والبقاء على قيد الحياة بفضل إكسير الحياة حتى وجدوا كوكبا يشبه الأرض، في حقبة الديناصورات وقبل ظهور الإنسان!! وبعد أن قام المدير من النزول من المركبة الفضائية لحساب نسبة الأوكسجين في الكوكب الطاهر كانت الديناصورات قد أكلت أول وآخر وجبة بشرية لها على الإطلاق.

لماذا أحدث فيلم Don’t look up كل هذه الضجة السياسية والفلسفية

حمزة السغروشني

انا طالب دكتوراه في تخصص التقانة الحيوية، مهتم بالكتابة العلمية.

‫2 تعليقات

  1. الدكتور حمزة السغروشني يفاجئنا دائما بأسلوبه الراقي في سرد و وصف الأحداث تحياتي لك و شكرا كثيرا استمتعت بالقراءة💙❤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *