لماذا يجب مشاهدة فيلم don’t look up؟

أحدث الإنتاجات الهوليودية

إن الذي جعل من فيلم don’t look up محط اهتمام و إشادة واسعة من طرف جمهور السينما وحتى النقاد والمهتمين بالمجال، هي الرسائل العديدة التي التي يتضمنها ويزخر بها هذا الأخير، والتي يمكن اختصارها فيمايلي:

  1. العلم مهما بلغ من تطور ومهما بلغت حاجتنا إليه فهذا لن يجعله أهم من السياسة في مجتمعات الاستهلاك والفرجة.

2) العالِم أضعف من السياسي قوةً وتأثيرا مهما بلغت مكانة وقيمة الكشوفات العلمية التي يتوصل إليها، أو لنقل تبعية الدوائر العلمية للسياسة ماليا على الأقل يجعل العلم والعلماء أقل قيمة وتأثيرا وسلطة من السياسة والسياسيين.

3) إعادة تأكيد فكرة “غوستاف لوبون” صاحب مؤلف “سيكولوجية الحشود” بشكل من الأشكال عندما يصور الفيلم الجماهير على أنها أكثر ميلا للثقة في خطاب السياسي بالرغم من فساده وقبح فعله، على الثقة في الخطاب العلمي.

4) التطور التقنوعلمي ليس مبعثا على الأمان والثقة أبدا؛ خاصة أمام الأخطار الطبيعية التي تتجاوزه وستظل كذلك لاربما (يؤكد الفيلم هذا الأمر من خلال نهايته المأساوية).

5) الذكاء الاصطناعي لن يكون مخلصا للبشرية، بل قد يكون هو الطريق الملكي الذي سيقودنا لملاقاة حتفنا.

6) الربط بين شخصية “بيتر” صاحب شركة الذكاء الاصطناعي في الفيلم وشخصية حقيقية في الواقع “بيل غيتس” ليس اعتباطيا بل له دلالة تتجسد في مدى نفاذ وتمكن الشركات التقنية وقدرتها على التحكم في كل شيء، إلا مصيرها ومصير الكون الذي لا يعدو أن يكون مختبرا مفتوحا لطموحات أصحاب”الأفكار غير المألوفة” كما يصورهم الواقع.

7) في خضم الأحداث المتتالية وبين ثنايا المشاهد المؤثثة للفيلم تبرز فكرة طالما شغلت الفلاسفة ألا وهي أن الأوهام كانت وستظل الخطر والعائق الأكبر أمام تحرر الإنسان وقدرته على تبصر وإدراك واقعه الحقيقي؛ فالناس تطمئن للوهم (على الرغم من من معرفتهم بذلك) لأنه مصدر الأمان، وزاد الذات في الحفاظ على وجودها في منطقة الراحة.

من احد مشاهد فيلم Don’t look up

8) تكريس فكرة الزعامة والمركزية الأمريكية وهيمنتها عبر استفرادها بالبحث عن الحل لمشكل كوني (خطر تدمير الكرة الأرضية في الفيلم) في غياب الإشارة -إلا في حدود ضئيلة- لدور الأقطاب والقوى العالمية الكبرى المتقدمة تكنولوجيا وعسكريا كالصين مثلا!

9) الفيلم من حيث لا يدري أصحابه أو عن دراية ربما يكرس منطق التلويح بالمخاطر والكوارث الطبيعية (ثابت من ثوابت البروباغندا الأمريكية) كخطر حتمي لابد من التجند والتنازل لتلافيه وإن بالخضوع لأكاذيب السلطة.

10) الفيلم يستوحي فكرة العشاء الجماعي لعائلة العالِم الذي يلعب دي كابريو دوره من السردية المسيحية التي تجسدها لوحة العشاء الأخير.

11) الفيلم في الأخير ينتصر للدين كمنفذ موثوق وبديل عن العلم على الأقل في درء المخاطر والمشاكل التي تهدد الإنسانية (مشاهد الصلاة والدعاء).

وأخيرا يمكن القول أن الخيط الناظم لما تقدم ذكره هو عالم مابعد التفاهة (إن صح التعبير) الذي نعيشه اليوم، والذي همش العقل والعلم وانتصر للهذيان والعدمية الجوفاء التي وجدت في السياسة والإعلام والاقتصاد أدوات لإنعاشها وترسيخها كواقع لا يرتفع.

وبناءً على ماسبق، يمكن القول أن هذا الاحتفاء بعمل فني سينمائي يلعب بطولته أكبر الممثلين الهوليوديون يبقى مستحقا، لكن ليس لأن أهميته وقيمته تكمن في جانبه الفني بالتحديد أو حتى في مستوى سيناريو العمل المقدم!

إنما أعتقد أن الإيحاءات و”مسافات التأويل والنبش” المتروكة للمشاهد بشكل مقصود في حبكة الفيلم هي ما يستمد منه العمل قوته؛فالفيلم لا يكتفي بالإجابة عن كل شيء من القضايا (أو القضية الأساسية) التي تعرض لها، بل يشرك ويفتح المجال أمام المشاهد ليكون فاعلا في الفيلم بشكل أو آخر ولو عن طريق تبني موقف معين من المواقف المعروضة بشأن قضية مصيرية تتعلق ببقاء واستمرارية النوع البشري، وهذا ما ينم عن حنكة وتمكن كبير للمخرج والمشرفين على إعداد مضمون الفيلم وتصويره.

لذلك فالفيلم أشبه ما يكون بنص “إشاري” كالنصوص الصوفية المفتوحة والمحفزة على التأويل والاجتهاد، لذلك سنجد أن العمل حافل بالتقاطعات ونقاط التماس مع العديد من الطروحات والسرديات الرائجة فكريا، والتي حضرت طبعا كإشارات قابلة للتكييف والتوظيف الفكريين.

وسأكتفي في هذا الصدد بإيراد نموذجين منها: الأول علمي والثاني فلسفي؛

التقاطع الأول يرتبط بما تضمنته إحدى الإصدارات العلمية الأخيرة الموسومة بِ : “Dieu, la science, les preuves
والتي خلقت جدلا واسعا بالوسط الفرنسي، لتأكيدها علميا على دعوى مفادها أن العلم في مستوى تطوره الحالي من خلال ما توصل إليه من نظريّات وكشوفات ينحو إلى نفي ودحض كل الفرضيّات الماديّة وَمنه العدمية وَالعبثية نفيا تاما وإثبات فكرة العقل المصمّم، أي فكرة “الخالق/le créateur”.

الممثل ليوناردو ديكابريو بأحد مقاطع فيلم لا تنظر إلى الأعلى

أما من الناحية الفلسفية فالعمل يتقاطع مع الفكرة الأفلاطونية القائلة بضرورة إنقاذ العالم مما يمكن ترجمته ب”المظاهر les apparences” والتي عبّر عنها هذا الأخير في دعوته الشهيرة “لننقذ العالم من المظاهر”.
هذه الفكرة ترى أن وراء هذا العالم الفوضوي والكون بشكل عام، نظام ونسق رياضي وفيزيائي ينبغي فهمه وعلى أساسه سنتجاوز كل مظاهر الفوضى القائمة، وهذا ما يجسد الثلاثي (الفاضل في الفيلم) ليوناردو ديكابريو وجنيفر لورانس وروب مورغان كممثلين للمجتمع العلمي، بحيث يحاولون جاهدين إقناع المجتمع بصدق نبوءتهم العلمية ورغبتهم في إنقاذ العالم من الهلاك المحتوم بناء على أرضية العلم وقوانينه، في المقابل معارضة أو لنقل تماطل وعدمية سياسية يجسدان “المظاهر les apparences” والفوضى الذي أحسن كلٌّ من “ميرل ستريب” و”مارك ليرلانيس” وآخرون تجسيدها فنيا.

ويمكن أن أضيف في هذا المستوى تقاطع فلسفي آخر يتعلق بما ذهب إليه “آلان دونو” في كتابه “نظام التفاهة” ليس حول تأكيد فكرة تدعم نفسها بنفسها وهي أن زمننا زمن التفاهة بامتياز فقط!
وإنما عندما حاول أن يوضح أن محاولة أو ادعاء البعض محاربة التفاهة بنفس وسائلها هو في حد ذاته تفاهة، طالما أنه لا يخرج عن ما يشكل طبيعة الأشياء التي نسميها بالتافهة ولا يخرج عن ما يُتوقع أن تبلغ مداه هذه”المحاربة”. ويمكن أن أحيل هنا على الانقلاب الذي حدث في شخصية العالِم التي يلعبها البطل”ليوناردو دي كابريو”حينما تحول من مدافع عن مصير الكون ومناصر قوي للعقل وللوجاهة العلمية إلى وجه من أوجه الترويج الإعلامي للفرجة والتفاهة.
وهذا فيه تأكيد على قوة وجاذبية هذا النظام؛ نظام التفاهة وصعوبة القضاء عليه أو تبديد مساعيه إلا بالإنغماس أو الاندماج فيه.

وفي الأخير أؤكد على أن العمل ليس عملا إعجازيا أو كاملا من الناحية الفنية، وليس بالضرورة أن يروق الجميع أو أن يفهم على نفس النحو الذي قدم بها على منصات التواصل الاجتماعي أو المجلات والإصدارات المتخصصة في المجال، ولكن يبقى أفضل مما هو كائن حاليا على الأقل.

لماذا يجب مشاهدة فيلم don’t look up؟

Exit mobile version