جناية الاستشراق

ترجمة القرآن الكريم لتشويه صورة الإسلام

سأحاول في هذا المقال أن أقدم مقاربة وصفية لترجمة المستشرقين لمعاني القرآن الكريم، فقد كانت ولا زالت الترجمة بمثابة الجسر الذي تعبر ثقافة مجتمع ما من خلاله إلى باقي الثقافات من حولها، فكما أن الترجمة تلعب دورا كبيرا في خلق الحوار بين هذه المجتمعات، فإنها أيضا تمهد للسيطرة والاستعمار الثقافي والسياسي.

إن الترجمة ليست عملا سهلا، فكل ترجمة لا تنقل المعنى المراد من النص، بأمانة وجدارة، عن قصد أو غير قصد، تؤدي إلى التباين وسوء الفهم، لاسيما في مجال الدين أو السياسة والعلاقات الدولية. فهذا أبو عثمان الجاحظ يقول في كتابه الحيوان: “ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشية التي يعيش بها بنو آدم”.

لقد جذب القرآن الكريم، بطريقته المثلى في عرض عقيدته وشريعته وبأسلوبه المتفرد وصياغة أفكاره، ومبادئه اهتمام كثير من الأوروبيين، وبخاصة القساوسة والرهبان، فدعوا إلى ترجمته أولا قبل دراسته، وكان أول من قام بذلك إلى اللاتينية الراهبان روبرت الإنجليزي وهرمان الألماني بطلب من الراهب بطرس رئيس دير كلوني جنوب فرنسا سنة 1143م. وظلت هذه الترجمة مخطوطة في نسخ عدة تتداول في الأديرة مدة أربعة قرون، إلى أن قام تيودور بيبلياندر بطبعها في مدينة بال في سويسرا عام 1543م، وقد تحدث عنها جورج سال قائلا: “إن ما نشره بيبلياندر في اللاتينية زاعما بأنها ترجمة للقرآن الكريم لا تستحق اسم ترجمة، فالأخطاء اللا نهائية، والحذف والإضافة، والتصرف بحرية شديدة في مواضع عدة يصعب حصرها، يجعل هذه الترجمة لا تشتمل على أي تشابه مع الأصل”.

ثم توالت الترجمات القرآنية إلى اللغات الأوروبية بعد ذلك في الظهور، يقول بيرسون: “إن الترجمة الفرنسية القديمة جدا هي ترجمة اندري دي ريور، طبعت كثيرا بين الأعوام 1647 و 1775، وكانت كلها تحتوي على مختصر لديانة الأتراك وبعض المستندات”. وفي القرن الثامن عشر ظهرت ترجمات أنجزت أيضا على أصل عربي، حيث نشر الإنجليزي جورج سال ترجمة مباشرة من العربية إلى الإنجليزية سنة 1734م، زعم في مقدمتها أن القرآن إنما هو من اختراع محمد ومن تأليفه، وأن ذلك أمر لا يقبل الجدل، ونشر الفرنسي سافاري ترجمة مباشرة الى الفرنسية سنة 1751م، حظيت بشرف نشرها في مكة المكرمة، وفي سنة 1925 ظهرت ترجمة إدوارد مونتيه التي امتازت بالضبط والدقة. وفي العام 1949 ظهرت ترجمة بلاشير، التي توجد السور القرآنية فيها مرتبة حسب التسلسل التاريخي، وأهم ما يميزها إرفاق نص الترجمة ببعض التعاليق والبيانات، وكثيرا ما يورد للآية الواحدة ترجمتين يبين في إحداهن المعنى الرمزي، وفي الثانية المعنى الإيحائي. يقول جاك بيرك: “إن ترجمة بلاشير لها مزاياها فهو رجل من أفضل المستشرقين الأوروبيين اطلاعا على قواعد اللغة العربية وآدابها، ولكن من نواقصه أنه كان علمانيا، أي أنه لم يكن قادرا على تذوق المضمون الروحي للقرآن وأبعاده الصوفية”. وسنرى زيف هذا الرأي ونفنده.

وصدرت في العام 1990م ترجمة جاك بيرك، حيث استغرق ثماني سنوات من العمل المتواصل في إنجازها، استعان فيها بعدة تفاسير، أولها تفسير الطبري، وتفسير الزمخشري من التفاسير القديمة، وتفسير محمد جمال الدين القاسمي من التفاسير الحديثة، وأهم ما ميز هذه الترجمة، تلك المقدمة التي خصها بيرك لتحليل النص القرآني ومميزاته ومضامينه، والخصوصيات التي يتمتع بها، لكن بالرغم مما أحدثته هذه الترجمة من ضجة كبيرة في الأوساط الفرنسية، واعتبرت حينها حدثا ثقافيا بارزا، فإن صاحبها يرى أن عمله الترجمي لن يصل الى مرحلة الكمال، وإنما سيكون موجها الى المسلمين الذين لا يحسنون اللغة العربية، ويحسنون اللغة الفرنسية. وبالرجوع إلى تاريخ الترجمات الفرنسية لمعاني القرآن الكريم، يتضح لنا أنها مرت بثلاث مراحل رئيسة:

1- مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى اللغة الفرنسية.

2- مرحلة الترجمة من اللغة العربية مباشرة إلى اللغة الفرنسية، وهذا مسلك نهجه كثير من المستشرقين الفرنسيين في ترجماتهم للقرآن في القرن العشرين أمثال بلاشير وبيرك.

قرآن-مترجم-لعدة-لغات
قرآن كريم مترجم لعدة لغات

3- مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة إلى اللغة الفرنسية، مثل ترجمة الجزائريين لايمش وابن داود والتي كانت بأسلوب بليغ وعجيب، وترجمة أحمد يتحاني سنة 1936م، وترجمة حميد الله سنة 1959م، وترجمة الدكتور صبحي صالح سنة 1979م. فصدق في حقهم “بلغوا عني ولو آية”.

نلاحظ أن الترجمات الأوروبية لمعاني للقرآن الكريم، كانت من قبل مترجمين يحسنون اللغة التي ترجموا إليها أكثر من اللغة العربية، أو العكس، ولذلك كانت تلك الترجمات الأوروبية معرضة للخلل والنواقص الكثيرة، ونلاحظ أيضا أن القرآن الكريم ترجم إلى أكثر من مائة لغة أوروبية، كما نلاحظ إعادة نشر وطبع ترجمات معينة، خصوصا تلك التي سادتها الضغينة وكثر فيها التحريف. والنتيجة كما قال لامينيز: “أننا لا نملك ترجمة جيدة للقرآن لا عيب فيها”، و يقول بوسكيه: “إن الترجمات الفرنسية كغيرها من الترجمات الأخرى للقرآن مهما كانت نوعيتها وضبطها وقيمة أسلوبها فإنها لا تؤثر في قلب غير المسلم كما يؤثر القرآن وحده في قلب المتقين”. وتبقى المعرفة الرائجة حول الإسلام، أساسها الكثير من المغالطات والإسقاطات.

وقد تأمل هشام جعيط مختلف آراء المفكرين الغربيين بخصوص علاقة الإسلام بالغرب، فأدرك أنها لا تخرج عن دائرة علم الاستشراق، المحشو بالنظرة الإمبريالية المجبولة على سرقة الآخر واضطهاده واستعماره، حيث أن مؤرخ الاستشراق رينان يختزل الإسلام في أنه عالم فاسد بحد ذاته. والأونطولوجي المشهور كلود ليفي ستراوش يجعل من الإسلام بنية للعداء والعنف والاستعباد. ونمثل لذلك بموقف بلاشير من القرآن الكريم الذي كان واضحا في منهجه في ترجمة معاني القرآن الكريم، فهو يشكك في أصالة ترتيب سور القرآن الكريم، ويزعم أن القرآن الكريم من تأليف محمد عليه الصلاة والسلام، ويوهم القارئ أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية، كما يزعم أن بعض الآيات في غير محلها.

أما الأخطاء النحوية واللغوية في ترجمته لمعاني القرآن الكريم فكثيرة نذكر مثالا لكل منها:

ترجم قوله تعالى: {حتى يأتي الله بأمره}، كما يلي: Jusqu’à ce que Dieu vienne avec son ordre

والصواب هو: Que Dieu fasse venir son ordre

وترجم قوله تعالى: {ويستحيون نساءكم} كما يلي: Et couvraient de honte vos femmes

والصواب هو: Laissaient vivantes vos femmes.

وأخيرا تؤكد الدكتورة زينب عبد العزيز في مقدمة كتابها “ترجمات القرآن إلى أين؟” أن المستشرق جاك بيرك سار هو أيضا على نفس النهج في ترجمته لمعاني القرآن، حيث التعصب المغرض والرغبة في تشويه صورة الإسلام.

جناية الاستشراق

كمال نابغ

أعمل أستاذ اللغة العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *